وضاح شرارة2: اليسار الأعمى ونكوص الشيعة وتيه الحراك اللبناني

يوسف بزي

السبت 2016/01/02
عشر سنوات من التحولات الصعبة. عقد مليء بالوعود الكبيرة والمفاجآت التاريخية، كما بالصدمات والخيبات الشديدة. انعطافات حادة، وانقلاب أحوال، وكوارث هائلة متتالية، هي بحجم التطلعات والأحلام التي حركت شعوب المنطقة ومواطنيها.
هي أولاً سنوات الأفكار والعناوين والشعارات التي طالبت بالتغيير، فتحولت ثورات سلمية أو انتفاضات عنيفة وحروباً أهلية – إقليمية، وفوضى متمادية ومدمرة. لكنها بالإضافة إلى ذلك، هي زمن التحولات العمرانية والاقتصادية و"السوسيولوجية"، والدخول في عوالم شبكات "التواصل الاجتماعي"، ومظاهر لا حصر لها لمستجدات العولمة...
بمزيج من اليأس والعناد، نحاول أن "نفهم"، أن نقرأ ونقيم "مراجعة" شخصية، مع مثقفين لهم صلة حميمة ومؤثرة بالشأن العام، ولهم إسهامهم الواضح في صياغة "الرأي العام" ولغته.
انطلاقاً من حيواتهم الخاصة وسِيَرهم، ومن المكان اللبناني وخصوصيته، إلى مشهد منطقتنا عموماً، وسجالاً مع أسئلة الثقافة والأيديولوجيات والسياسة والأحداث "التاريخية"، التي شهدناها في السنوات الأخيرة، نحاور عدداً من الباحثين والمفكرين والكتّاب اللبنانيين.


هنا نص الحوار مع وضاح شرارة في جزئه الثاني، بعد جزء أول نُشر الأسبوع الماضي، ونشدد على أن أجوبته هنا أتت شفاهية، وتم في ما بعد التدقيق في إملائها وتحريرها من غير تعديل:

* في معظم مقالاتك عن الثورات العربية، شددت على المسألة الدستورية.. وأنجزت مراجعة مستفيضة للتجربة الدستورية العثمانية، بوصفها لحظة تاريخية متعثرة لا تزال آثارها وتداعياتها مؤثرة؟

- أثناء المتابعة، اليومية تقريباً، لوقائع ومجريات الحركة المدنية والديموقراطية المصرية، عُقد عدد من النقاشات في التلفزيونات المصرية، دُعي إلى الكلام فيها بعض من سُمّوا شباب الثورة. ونوقشت في تلك الحوارات مسألة التشريع، أي مسألة حق جماعة "الثورة" في التشريع وفي إبطال قوانين وقواعد وأعراف، ويوجبون قوانين وقواعد وأعراف جديدة. وظهرت في صورة واضحة حيرتهم حول مسألة جدارة حركة سياسية بإملاء قواعد وقوانين وإجراءات. وبدا أن فكرة مصدر السلطات ليست فقط غائمة وإنما محيرة، وأشبه بتربيع الدائرة. ولما بدأ المصريون، على اختلاف تياراتهم، يصدرون فعلاً تعديلات دستورية أو وثائق دستورية، مثل التي وضعها "الإخوان المسلمون" أوائل العام 2012، وصدرت الصياغة الأولى للدستور، ثم الصيغة "الإخوانية"- أي، عملياً، ثلاث صيغ دستورية بين أوائل 2012 وربيع 2013- وفي ضوء قراءة الوثائق هذه، وعطفاً على البند الدستوري المُشكل، الذي ينص على أن الإسلام مصدر التشريع وأن إجماع الفقهاء على المسائل الأساسية هو سند التشريع ومصدره، بدا أن هاتين المسألتين، الدستور ومصدر التشريع، نبّهتا إلى مركزية أو محورية الدستور. والمسألة المرافقة لها هي: يُفترض أن الدستور يصوغ ويقدم ويبلور القواعد التي تحكم علاقات المؤسسات ببعضها، وهو في الوقت نفسه ناظم لعلاقة أجزاء المجتمع بعضه ببعض، وعنصر أساسي في تعريف أدوار هذه الأجزاء.

وإذا كان هذا هو دور الدستور، فله صفة زمنية، إلى حد بعيد مستقبلية. فهو صادر عن جماعات من مجتمع. ولهذه الجماعات ولهوياتها ولعلاقاتها تاريخ، وثمة ضرورة اعتبار ما يتماشى مع هذه الاعتبارات. وعليه، من الممكن القول أن دستوراً لبلد ومجتمع يتناول مسألة ما، كالملكية أو الجمهورية، أو علاقة مجلس عموم بمجلس شيوخ.. إلخ، أو يعرف طبيعة التمثيل في ما يسمى "الغرفتين" (الشيوخ والعموم)، عليه أن يلحظ صلة هذه المسائل الوثيقة الصلة بتقاليد وعادات وتراث البلد (الدولة) الذي وضع هذا الدستور له.

وحين تستولي على السلطة ديكتاتوريات فاشية أو شيوعية أو حتى ديكتاتوريات عسكرية عادية (ليست توتاليتارية)، فأول أمر تفعله هو إلغاء الدستور السابق. وتعتبر هذا الصلب الذي تتحدر منه الأحكام غير صالح وغير جائز. وهذه السياسة، أو هذا القطع، هو دائماً علامة على "ثورية" قد تكون يمينية أو يسارية، وعلامة عجز عن الاضطلاع بتاريخ المجتمع الذي تطمع هذه السياسة إلى حكمه وتدبير شؤونه. وثمرة هذا القطع، أو هذا "الجبّ" ("الإسلام يجبّ ما قبله")، والانسلاخ عن تاريخ وتقاليد مجتمعات، يؤذن بالانقلاب على المجتمعات هذه، وإجبارها وقسرها على تحقيق صورة عن المجتمع لم تخترها (في حال الانقلاب العسكري).

الحيرة أو التخبط المصري في النقاشات، قبل الوثائق، وفي الوثائق بعد المناقشات، دليل على إشكال الصورة التي يقدمها الدستور عن الجماعة الوطنية، ويُفترض أن تعمل حقوق وعلاقات اجزائها وأجزاء السلطات بهذا الدستور. ولكن التخبط الدستوري، والحيرة الحادة في ما ينبغي أن ينص عليه الدستور، وفي ما لا يحتاج دستور إلى نص عليه، هو على الأغلب صورة أو نتيجة لحيرة سياسية أعمق. وهي، حقيقة، حيرة تاريخية. فالجماعات التي أصرّت على نص مصدرية التشريع الإسلامي - في صيغه المختلفة – من الواضح أنها ترى هذه المصدرية ضمانة تحول دون أي تغيير عميق في المجتمع وفي الدولة، وباباً مسدوداً بوجهه. هذا الباب موصد بوجه تغيير رأسمالي من طريق المصارف والتسليف والاستثمار والتجارة إلخ، وباب موصد بوجه تغييرات اجتماعية جذرية تتناول الجنسين وعلاقاتهما، والأسرة والميراث والتعليم والإعلام... وكل هذه المسائل التي لها دور في تحول المجتمع من حال إلى حال.

فلما نص الدستور المصري الأول، وهو غير الوثيقة الدستورية، على دور الأزهر، خلط خلطاً كاملاً بين هيئة أو بنية من مباني المجتمع الأهلي وبين سلطات الدولة، وألحقَ هذه السلطات بتلك البنية الأهلية الجزئية (الأزهر). وهذا الخلط، إلى الخلط السابق الذي يطاول زمنية الدستور، قرينتان على هجنة الصياغة الدستورية والعملية الدستورية المتوقعة. فكيف، بعد هذا، يُتصور أن هذه الوثيقة قادرة على ضبط التحول الأساسي في قوام السياسة، وفي الإرادات والحاجات والتطلعات الشعبية والوطنية والقطاعية ورسوها على قوانين وقواعد وتحكيم... تتولى بلورة معنى واختطاط طريق.

في قلب الدساتير "النموذجية"، وهي صاغتها غالباً ثورات اجتماعية وسياسية عريضة وطويلة زمناً، من أبرزها الأميركية والفرنسية، هوامش واسعة تستقبل التعديلات العميقة غالباً، أو تلحظ الاستثناءات الكبيرة التي يمكن أن تطرأ في أحوال غير متوقعة، مثل الحروب والثورات والنزاعات الطويلة. فيما يلاحظ في الصيغ الدستورية العربية، ومنها تلك التي دُبّجت في السنين الثلاث أي أثناء "النزاع المثمر" (2011 – 2013)، يلاحظ فيها غياب أبواب أساسية هي أبواب التعديل والاستثناء و"الطوارئ" (القانونية). وهذا ربما علامة، أظنها قاطعة، على وقوف الثقافة الدستورية، وعلى التباسها وشللها.

ولا شك في أن هذا التخبط يردّ المراقب "المؤرخ" إلى السابقة العثمانية الدستورية. فالدستور العثماني الأول (1876) كان المرحلة الثالثة من "التنظيمات": بدأت هذه بخط كولخانه 1839، ونص على المساواة بين رعايا السلطان من الملل المختلفة، ثم قضى النص الثاني الكبير 1858 بتخصيص الملكية وتمليك المزارعين جزءاً من أراضيهم، وألغى الإقطاعات والمصادرات و(بعض) جباية الالتزام، وختم النص الثالث الكبير، أي الدستور، هذه التنظيمات بتشريع مجلس منتخب، قليل الصلاحيات نسبياً وعريض التمثيل (الأقوام والأديان والمهن...). وكان الدستور، إلى التنظيمات الأخرى، آية إرادة الانتقال من النظام السلطاني الامبراطوري إلى إطار الدولة "الوطنية" أو "القومية"، وأداة الإقرار بحقوق المواطنة والمساواة بين الجماعات التي أُلحقت بالسلطنة في أوقات متفرقة. وحسم إخفاق هذه المحاولة عودة السلطان عبد الحميد عن الدستور. والأرجح، أن الإخفاق العثماني في التحول من السلطنة ومراتبها وجمعها المتسلط لرعاياها، إلى أصل أو مبدأ "صاحب الحق"، أي المواطن الكامل المواطنة، ومستودع المبادرة ومراقبة السلطة ومساءلتها وتقييدها... هذه المسألة عادت وبرزت على نحو صارخ في مسألة مرجع التشريع وسنده أبان الحركات العربية.

* من نقدك لأيديولوجيا اليمين اللبناني، إلى خصومتك لليسار اللبناني والعربي، عدا عن غربتك عن الأيديولوجيا القومية والبعثية، وعدم صلتك بما يسمى "الممانعة".. أين تجد نفسك؟ أو بالأحرى أين نجد أنفسنا؟ أين أنت الآن؟ هل يعني لك اليسار اليوم شيئاً؟ هل تنحاز إلى صفة "الديموقراطي"؟ هل ترى نفسك في الليبرالية اللبنانية؟

- يجب أن أعترف لك. تساورني شكوك عادمة في كل التعريفات أو الأوصاف المعرِّفة للألفاظ. اليمين اللبناني؟ الجماعات والأفراد التي حملت في تاريخها عملياً كل الجوانب الحياتية والفكرية والذوقية والجمالية، التي نعرّف أنفسنا تلقائياً بها، ونطمئن إلى هذا التعريف، ونراه علامات على الأشياء التي نتبنّاها ونطمح إلى تحسينها ومشاركتها، من ملكية الأرض الخاصة، إلى الحريات الفردية وحرية الاعتقاد والصلة بالغرب الأوروبي والأميركي وثقافته وتراثه وأعماله، والإقرار بحقوق المنازعة والإختلاف وبالتحكيم.. كل هذا ندين به، اليوم وبالأمس، من يُقصدون بلفظة اليمين المهينة. وعندما يُقال اليمين اللبناني ينبغي الاعتراف بأنه في اللغة اليسارية و"الاسلامية" الدارجة: المسيحية اللبنانية.

اليسار اللبناني والعربي؟ أي العمى، الذي يكاد يكون مطلقاً، عن الوقائع والرغبات والحاجات والتوقعات والنزاعات.. التي اعتملت وتعتمل في أحشاء المجتمعات العربية والإسلامية، فضلاً عن جهل مطبق بأحوال العالم عموماً. وهذا اليسار، في شقيه اللبناني والعربي، كان على الدوام نافخاً في الحروب الأهلية التي لازم انفجارها، أو دبيبها قبل الانفجار، تاريخنا المعاصر منذ استقرارنا على "دول وطنية".

أما الأيديولوجيا القومية والبعثية، فمن بطنها ولدت روائع نشهد فصولها الإنتحارية الأخيرة. وهي فاجأت ضامري الذاكرة منا، فنسوا إنجازات الانقلابات العسكرية القومية في أرجاء العوالم العربية والإسلامية الميمونة: ضباط المخابرات، سجّان قصور النهاية، والمزّات، والمطامير الأفريقية، ومصاقيع الشعراء والخطباء وأمناء روابط الكتّاب العامين ومدّاحو الصدّامين والأبديين وملك الملوك وملوك ملوك الأدغال القاحلة والمحيطات.

وأرى أن الكلام على ديموقراطية في مسبعة أو منمرة الأمراء والملوك والقادة والأبطال والسماحات والرعايا والزلم والحواشي والأشياع والتابعين والجماهير وأهل الغنيمة والريوع والأخرجة والأعشار.. ضرب من الهزل والمازوشية المسترسلة لا إلى غاية. وهذا سؤال يُشكر عليه السائل ويُعذر.

ويفترض السؤال عن الليبرالية اللبنانية أن هذه الليبرالية مرآة يتراءى الناس فيها. والحق أن هذه الليبرالية المزعومة يصدق فيها ما قاله ماكس فيبر في روح الرأسمالية، عندما نبّه إلى أن الرأسمالية، وبعضها استوى في ضوء الأخلاقيات البروتستانتية، هي خلاف "رأسمالية قطّاع الطرق" الذين استولدوا أموالهم من المصادرة وانتهاز الفرص والمضاربة والسطو.. فالرأسماليون الذين ولدتهم رأسمالية ثورية، استحقت مديح كارل ماركس ومن بعده ماكس فيبر، هؤلاء من العسير جداً على أشد الناس تسامحاً أن يروا شبهاً لهم ولو بعيداً في "نظرائهم" اللبنانيين.

* كتبت "الأمة القلقة" ثم "دولة حزب الله".. كتابان يتمحوران على تاريخ الشيعة اللبنانيين وأطوار هذا التاريخ وتحولاته. اليوم، كيف يمكن "مخاطبة" الشيعة، سعياً لإنجاز تفاهم وطني جديد؟

- ربما يعود الاهتمام بتاريخ وأحوال شيعة لبنان إلى ما لا أنكر أنه تجربة شخصية. فأنا قدمت على شيعة جبل عامل، وأعني بهم "أهلي" في بنت جبيل، بعدما نشأت في أعوامي الأولى في بيت شيعي في "التذكرة". فأهلي الصيداويون هم شيعة، ولكنهم في المرتبة الأولى أهل مدينة على النحو الذي خبرتُ عليه المدينة الأوروبية الجميلة، وخبرتُ بعض بيروت في السنوات العشر التي سبقت انفجار الحروب الملبننة. غلبت على هؤلاء، وهم نساء، أرواح المدينة (من رياح)، بكلامهن ولباسهن وتعلمهن وميولهن وحبهن وقيامهن بأنفسهن واعتدادهن بها. وكان هذا جلياً في زيجاتهن وعملهن ورعايتهن لأولادهن، وعلى رأسهن أمهن، جدتي لوالدتي.

وفي بنت جبيل اختبرت أمرين مختلفين. الأمر الأول هو حرارة الحياة التي يحياها أهل البلدة. فأول ما يطالع القادم إلى بنت جبيل كان إقبال أهلها على حياة حسّية كثيرة الوجوه، وعلى استعمال للغة ينشد الجرس والوقع وزواج الأصوات. وكانت الخطابة الوجه القبيح من الاحتفال باللغة والاستمتاع بها، كما كانت "المرجلة" هي الصورة القبيحة للاحتفاء بالجسد، وحركاته وانثناءاته.

الأمر الثاني كان النازع الحاد والمستميت إلى التفاوت والتعالي والإذلال والتجبّر والاستقواء بالنسب أو الجاه أو المال أو الخيزرانة أو بندقية الصيد أو المسدس. وبعض هذا النازع كان يتجلى في المناسبات الانتخابية، وفي إحياء مجالس العزاء، وفي عاشوراء والأعراس.

وأخال أن تشيّع هؤلاء الأهل، أهل بنت جبيل وأهل العائلة التي ولدت لأحد أبنائها، يجمع النازعين اللذين تقدما، وذلك على مثال ربما يصح وصفه على الصورة التالية: مزج النازع إلى الحياة بالتكالب على المراتب والمكانات والأنساب.

وأحسب أن قلق هذه الأمة يضرب بجذوره وأصوله في هذه التربة الخصبة. وحين خالطت، يومها ومن بعد، أهلي هؤلاء، تنازعني في شأنهم نازعان، نازع إلى الإعجاب والقبول والانخراط والتبني، وآخر إلى النفور والاستنكار والشفقة. ولعلي لا أُلبّس على نفسي، ولا على الآخرين، بقولي أنني حين راقبت نشأة "حركة المحرومين"، قبل "حركة أمل"، ثم الخطوات الأولى لما استقر على "حزب الله"، خالجني الشعور نفسه حين تعرّفت، متأخراً بعض الشيء، إلى أهلي. ولا أزال عند الشعور والرأي هذين.

ويبدو لي أن ما سمّي "الشيعية السياسية"، على مثال "المارونية السياسية" (والحق أن المارونية اجتماعية في المرتبة الأولى على خلاف جماعات وعصبيات السنّة والشيعة والدروز)، هو ثمرة انشقاقٍ أهليٍ قد يكون من غير سابقة. فالانشقاق الشيعي اللبناني أخرج كتلة كبيرة من اللبنانيين من مسعى طويل وشاق في سبيل تثبيت ميزان وطني وسياسي واجتماعي وثقافي يستقبل، من غير غلبة ساحقة أو مفتعلة ومتخيلة، روافد اجتماع تربط بين أجزائه روابط الجوار وبعض روابط التاريخ المتشابك. فالدعوى اللبنانية كانت أقرب إلى الاقتراح منها إلى الصيغة المغلقة أو النظام المحكم. وقلما خالطها عنف قاهر. ويبدو لي أن الاقتراح اللبناني يخالف مخالفة حادة الصيغ العصبية العروبية أو الإسلامية أو المسيحية. وخروج اللبنانيين المسيحيين من الوصاية الانتدابية (الفرنسية)، في ما سماه جورج نقّاش "ثورة 1943"، كان جزءاً من صيغة الاقتراح هذه. والميثاق الوطني، على خلاف الأمم أو الشعوب الملتحمة التي زعمت أنها مرجع "الكيانات المصطنعة" أو الدول الوطنية، هو صورة إرساء السياسة على التعاقد وعلى التحكيم، وعلى الخلاف والمساومة تالياً. وبدا، زمناً طويلاً، أن في وسع الشيعة اللبنانيين - وهم يدينون إلى لبنان وإلى مواطنتهم بأثقال وأطنان من المزايا - حمل المقترح على محمل الجد، والإسهام في إثرائه، وفي استيلاده مؤسسات ورسوماً اجتماعية وثقافية متنوعة.

ونكوصهم هذا لا يُعدم مسوغات كثيرة: من الهامشية المؤقتة، والتشكيك في علاقتهم الرحمية بالفكرة "اللبنانوية"، إلى قسوة الفلسطينيين والإسرائيليين وقوميي العرب عليهم. فخبروا التهجير والتشرد والتقطع والضعف. ولكن نكوصهم المديد الذي أثمر ثمرات مسمومة مشهودة تحول دون عودة الميزان إلى بعض استوائه، لا يعود شطر راجح منه إلى تجربتهم المريرة ولا نسيانهم نصف القرن الذي قضوه في الخيمة اللبنانية. فلا شك أن ما أدى إليه هذا النكوص يتجاوز بمراحل لا تقاس علل النكوص الأولى. وعليه، ربما دواء هذا الداء أقسى من علاج الشيعة المزعوم لمظلوميتهم، على وجهيها الفعلي والاستيهامي.

* في الجوار، كانت الثورة السورية وتحولاتها الدموية، كيف كانت نظرتك إلى هذا المشهد الكارثي؟

- حالت أمور محددة دون تجاوز تحفظي الأول والمستمر عن الحركة المدنية والديموقراطية السورية في مطلعها. فالحبكة العائلية الأسرية والقبلية التي رويت الحوادث السورية من طريقها، وأعني الخبر عن الأطفال السوريين في درعا الذين استُدعي هم وأهلهم إلى أقسام المباحث، وطُلب إلى أهلهم نسيانهم وولادة غيرهم محلهم، والتلويح بأن رجال الأمن قادرون على إنجاب أمثال هؤلاء الأولاد إذا عجز أباؤهم عن الإنجاب.. هذه الحبكة شخّصت بواعث على الاحتجاج والاستنكار والتمرد من نمط مغرق في عشائريته ودمويته العائلية.

وأظن أن هذا يفوق خروج المتظاهرين من المساجد أثراً ودلالة. وتدعو العصبية الدموية إلى التحفظ والحذر فوق ما تدعو إليهما العصبية المسجدية. وفي الأيام الأولى للحركة، خرج إلى الكلام باسمها، والتولّي عليها، "مثقفون" كان دأبهم الأول إنكار قابلية السوريين إلى الانقياد للطائفية، واحتجوا لإنكارهم بالإختلاف العميق والغريزي بين "طائفية اللبنانيين" وبين "وطنية السوريين" الصافية. فهؤلاء "المثقفون" احتاروا في الموقف الذي يليق بهم، اتخاذه، وبمكانتهم ودورهم المرجو، فوق ما احتاروا في الموقف الذي يليق اتخاذه بالحركة الوليدة ومعانيها ومكانها في سياق الأحداث الجارية. وعندما توالت انشقاقات الجيش السوري الحر، وسنحت فرص مشاهدة بعض قادته المنشقين، وسماع مقالاتهم، لم يخفِ على النظر الادعاء المفرط والخداع والتشاوف وضيق النظر، والعمى عن المعضلات والحواجز المتخلفة عن نصف قرن من الظلم والاستبداد والطغيان وسوء الإدارة، وتخليق الناس بأخلاق القهر والتعسف والمذلة.

ولكن هؤلاء كانوا، وغيرهم مثلهم، الوجه المنفّر مما سمي "ثورة". وسرعان ما ولد القمع المسلح والمدمِّر "شعباً" سورياً آخر، ارتسمت قسماته في خضم الحوادث المروعة التي أصابت السوريين ولا تزال تصيبهم.

والارتماء في العنف وفي الإقتتال قد يبعث عليه الهرب من دوام العيش والحياة في خضم الكذب والأسطرة والروايات المختلقة. فأجيال السوريين الذين قضوا أعماراً وعقوداً من السنين، وهم يحسبون أنهم نبض الشارع العربي وطليعة الأمة العربية الواحدة والخالدة، وأنهم الرد على الانحطاط العربي وعلى التجزئة والفقر، وأنهم قبلة أقطار العرب وأنبياء مواعيدهم .. فهم، على هذا، ليسوا فقراء ولا عمالاً ولا تجاراً ولا حرفيين ولا فلاحين، ولا علويين ولا سنّة ولا شيعة ولا اسماعليين ولا كرداً ولا قبائل ولا شركس ولا تركمان... فلا يجوز فيهم التعريف الاجتماعي ولا التعريف الاهلي أو الأقوامي أو الجغرافي. وإنما هم روح العروبة الأثيرية والمصفاة، وتعريفها هو مرتبتها ومحلها الأرفع. فكيف يسعهم بهذه الحال معاملة العالم وحوادثه ووقائعه ومشكلاته وحلوله ونثراته وإبداعاته، وهم على هذا الإبهام والإغفال والإعجاز؟!

قد يكون العنف المدمّر، ومسوّي الهويات، هو جواب هذه الترهة العظيمة التي أناخت بكلكلها على العقول والصدور والأحاسيس والأنفاس السورية قرناً من الزمن المدرك.

* في مقابل كوارث "الربيع العربي"، هناك من يطرح فكرة "الثورات الصغيرة"، ثورة بالتقسيط، ثورات مطلبية، احتجاجات موضعية بعناوين محددة: البيئة، الفساد، التعليم، محاربة البطالة، الحركات النسوية، الإصلاح القضائي، ..إلخ، هل هذا ممكن وعملي وأجدى؟ هل بشائرها هي الحراك اللبناني الأخير؟

- في تاريخ العمل المطلبي - أكان مطلبياً أو أقل بلورة من الشكل والتنظيم المطلبي - غالباً ما تكون مسألة برامج التحركات مثار أسئلة وملاحظات تتناول الصلة بين أهل المطالب، وأهل الحاجات المفترضة من ناحية، وبين هيئات كانت على الدوام تنسب لنفسها دوراً قيادياً، من ناحية ثانية. والزعم هذا، وهو رافقه على الدوام ادعاء صلة متميزة وعالية الكعب، بأحوال وأوضاع الجماعات والفئات التي تتحرك، وتخرج إلى العلن بمطالبها، وبشكاويها.. هذه "العلاقة"، وأظن أنها مزعومة، كانت تؤدي إلى اختلاق أدوار. وهذه الأدوار تبرر نفسها بتجربة التنظيم من ناحية، وبـ"معرفة" بالحاجات والأوضاع والإمكانات تتفوق - حسب زعم هذه الهيئات - على معرفة المعنيين أنفسهم والمتحركين. فكان ينتهي الأمر بالحركة وأصحابها إلى أن يكونوا "موضوع" التحرك، بينما هم أصحابه وذواته. ويستكمل الدور القيادي هذا مكانته ووظيفته، فيعمد إلى حشر المطالب في ما يقدمه على أنه برنامجه. وتكاد تجمع التنظيمات التي تنتهج هذه السياسة على أن أفق هذه التحركات والحركات هو قلب النظام السياسي والاجتماعي القائم، أو إصلاحه إصلاحاً عميقاً. وفي كل الأحوال تحتسب في حصادها المكاسب، التي تُحصّل أحياناً، صغيرة أو كبيرة.

وأظن أن ما يسمى ثورات صغيرة يحاول أن يطوي صفحة هذه المزاعم، المتوهمة أو المزعومة إلى حد بعيد. فهذه الفكرة (الثورات الصغيرة) لا تطعن في الثورة الكبيرة المزعومة أو المفترضة فقط، بل أظن أنها في المرتبة الأولى تطعن في كل المسرحية التي تَقَدم وصفها السريع. فهي تطمح إلى رد الحركة إلى أصحابها، تصوراً وتنظيماً، وتتفادى ادعاء رابطة مباشرة وعضوية بغاية كبيرة وغائمة. وقلما تربط الحركات الجزئية بينها وبين قلب النظام، أو حتى بينها وبين إصلاحه إصلاحاً عميقاً يستشعره مواطنون كثر.

ولكن قد تنزع الحركات الموضعية والجزئية إلى المبالغة في تصور رابطة مباشرة وملموسة بين الأوضاع المتردية، المشكو منها، وبين إدارة المعنيين الفعلية للحركة. وليس من اليسير على الحركات الجزئية والموضعية ألّا تنساق وراء وهمٍ موروث من الأحزاب التي تحترف التنظيم والبرمجة. وقد تكون المسألة الأبرز هي مبادرة المعنيين بالمسائل المطروحة إلى تدبير حركتهم بأيديهم. فهذا لا يستدعي مستوى "وعي" عالياً، على ما يزعم محترفو التنظيم والبرمجة، بل يستدعي في المرتبة الأولى المثابرة والتكاتف والتقدير المتزن لملابسات الحركة وميدانها، ويستدعي الجمع بين الانضباط الطوعي وبين الابتكار على وجهيه، وجه المواقف والشعارات ووجه التنظيم في معناه المباشر والعملي.

وهذه الشروط هي وليدة تجربة طويلة، مشتركة ومُدرَكة، على معنى: المداومة على مناقشة ظروف المسألة. ومن الأمثلة ربما القديمة على هذا المسار، ذاك الإضراب العمالي الطويل الذي قاده عمال مصنع ساعات "ليب" في فرنسا، أوائل السبعينات، وتكلم باسمه شارل بياجيه. وكان سابقة لمثال آخر هو إضراب غدانسك لعمال أحواض السفن، تقدمه ليخ فوينسا ("ليش فاليسا" كما شاع)، وولد نقابة "تضامن" (سوليدارنوسك). وآذن هذا الإضراب في 1981، في الانعطاف الذي نجم عنه انهيار النظام الشيوعي في شرق أوروبا.. وعندما استنكر القضاة الإيطاليون، في أوائل ثمانينات القرن الماضي، تواطؤ الدولة الإيطالية - وعلى رأسها الديموقراطيون المسيحيون والإشتراكيون - مع الجريمة المنظمة، المعروفة باسم "المافيا"، لم يقتصر استنكارهم على انتقاد إجراءات بعينها في قضايا معروفة، بل أظهروا إرادتهم بالمشاركة الفاعلة، والمحفوفة بالمخاطر، في قيادة تحقيقات ومحاكمات صارمة لجرائم من النمط نفسه. وكان حصاد الإرادة الشجاعة اغتيال بعض أبرز قضاة ومحققي المحاكم الجزائية الإيطالية. وقُتل مع القضاة بعض كبار ضباط الأمن الداخلي. وتولى فريق من القضاة إنشاء رابطة قضائية سميت "الأيدي النظيفة"، اضطلع بعض أعضائها، بعد استقالتهم من سلك القضاء، بدور سياسي برلماني.

وأسفرت هذه الحركات الموضعية عن صورة شديدة التعقيد للدوائر التي حصلت فيها. وأبرزت مسألة سياسية حاسمة، هي دور ما يصح أن يسمى تسييراً ذاتياً لهذه الدوائر. فالحركات التي تقصر فعلها على دائرة مستقلة بنفسها أو بذاتها إلى حد ما، تُعمِل في دوائرها صفات تنظيمية وبرنامجية وإنسانية لا تتوافر غالباً إلا في أصحاب تجربة طويلة ومشتركة ومُدرَكة. فالتخفف من تنظيم مركزي، ومن برنامج مسبق، يقتضي موارد عملية وفكرية وإنسانية تفوق كثيراً الموارد التي تزعم الأحزاب المنظمة والمحترفة توفيرها على المعنيين.

* ألاحظ أنك هنا تتجنب كلياً استعمال مصطلح "مجتمع مدني"؟

- هذه الدوائر، من صحة وتعليم وبيئة وفساد.. إلخ، هي على حدود إدارات الدولة المركزية وحاجات المواطنين ومبادراتهم. وإذا صح هذا الوصف، فمفهوم أو إطار "المجتمع المدني" قد يوهم بأن عنصر المبادرة، أو الماء التي تسبح فيها المبادرة، يستبعد العلاقات النزاعية والخلافية بين السلطات وبين عامة الناس. ثم يُحمّل "المجتمع المدني" عملياً كل شيء، أي نوع من الأفكار والآراء والنزعات... فيبدو هذا وكأن نسبة الحركات أو المبادرات إلى "المجتمع المدني" هو استباق لمضمون هذه الحركات ولصدقيتها ولمشروعيتها. فكل ما يصدر عن "المجتمع المدني" يُصوَّر في صورة زاهية، وينفي عنه الحاجة إلى إثبات جدارتها أو حملها لمطاليب لها جدوى.

واستكمالاً للسؤال السابق، أقول: لا شك عندي إطلاقاً في اختزان التحرك المدني اللبناني قوة على التعبير عن حاجات أساسية، وبلورة مسائل قد يكون مستحيلاً على بنية العلاقات السياسية في لبنان، وربما في المشرق العربي، أن يجلوها أو أن يعالجها.

* في الحراك اللبناني أيضاً: معظم النخبة الثقافية انتقلت من الحماسة إلى الحذر إلى النقد، ثم إلى الاختلاف وربما الإحباط. هل هي مسألة سوء تفاهم بين الأجيال؟ هل هي مسألة الغموض السياسي أو حتى التناقضات السياسية بين جماعات الحراك؟

- ما يستوقف في تناول الحراك اللبناني الأخير هو إغفال وصفه وصفاً اجتماعياً ومرحلياً. فلم يُسأل: من أين خرج هؤلاء الناس؟ ولماذا خرجوا في هذا الوقت وفي هذا الموضع؟ وما علاقتهم بأقطاب الحياة السياسية الآخرين (وهم قطب ناشئ من هذه الأقطاب). وأرى أنه استُسهلت إحالتهم إلى موضوع أو مسألة النفايات والتقصير في جمعها.

قد يكون الحراك جواباً عن انغلاق العلاقات السياسية في لبنان منذ الجلاء السوري. فهذه العلاقات استقرت على نوعين من التمثيل والتعبير السياسيَين. النوع الأول، الموروث جزئياً من الحياة السياسية التي سبقت انفجار الحروب الملبننة في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي، يقوم على التكتل والتمثيل الأهليَين (الطائفية والإقليمية المحلية والريعية الزبائنية.. هي وجوه من التكتل والتمثيل هذين). وغلب هذا النوع على الحياة السياسية البرلمانية النيابية، وعلى مراتب الدولة الأخرى، من الإدارة إلى السلطة التنفيذية إلى رئاسة الجمهورية. ونشأ نوع ثان، واشتدّ عوده في سياق الاقتتال الداخلي والحروب التي خاضها اللبنانيون بعضهم على بعض، بالأصالة أو بالإنابة. فجمعت التكتلاتُ الجديدة والقوية قوامَ الجماعات الأهلية، ودمجتها في منظمات عسكرية وعصبية متماسكة، وبعض هذه المنظمات غلب غلبة ساحقة على الجماعات الأهلية. فتولى قيادتها واستتباعها ومقارعة الجماعات الأخرى بسلاحها. ولا شك في أن الذريعة الإسرائيلية، شأن الذريعة الفلسطينية من قبل، أدّت دوراً راجحاً وقوياً في بلورة هذه المنظمات وفي سطوتها على الدولة وعلى الحياة السياسية، وتقدمت على الأبنية التقليدية الأهلية. وعلى رغم الصفة التمثيلية التي لا تنكر ويتمتع بها هذان النوعان من البناء السياسي المزدوج... بقيت "مساحة" قد تكون واسعة لفئات يحجز بينها وبين تمثيلها في هذين الموقعين حاجز حقيقي. فثمة فئات وشرائح عريضة، ينضوي بعضها في النوع الأول من البنى السياسية، وبعض ثانٍ ينضوي في أبنية النوع الثاني، وهؤلاء هم نتاج مرافق جديدة وكثيرة، ولدها تعقيد الحياة الاجتماعية والاقتصادية والخدمات واطوار الإعلام والثقافة والتكنولوجيا الجديدة.

هذه الفئات والشرائح هي ما يسمى بالطبقات المتوسطة الجديدة، وفيها الفنيون والمهنيون المؤهلون والمهن الجامعية والأطر الإدارية وشطر من الإعلاميين والمثقفين والمدرسين... يتسم تمثيلها السياسي في الأطر اللبنانية المعروفة بقدر لابأس به من القلق والتحفظ. وهؤلاء تكاثروا في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي. ووَلَدوا جيلاً من الشباب، بعضهم صار في مقتبل الكهولة، شطر منه نشأ إما على هوامش المجتمعات المحلية أو خارج لبنان، في مهاجر خليجية وأوروبية وأميركية وكندية وأسترالية. ولعل اجتماع هذه الروافد المتحدرة من هذه الأحوال الاجتماعية، ومن هذه البيئات والمنابت، عامل فاعل ونافذ في بلورة "المساحة" التي سبقت الإشارة إليها. فالأفراد الذين شاركوا في مراحل التحرك المدني الناشئ وفي خطواته الأولى، ينتسبون سناً وثقافة واجتماعاً إلى ذلك الجيل. وهذا ظاهر في فرديتهم ("الحسنة"، على ما يقال في "البدع") وفي شعاراتهم وفي تفرقهم وفي العسر الذي يجدونه في التنسيق بينهم، وفي بلورة تيار يتصف ببعض الثبات والانسجام.

وابتداء الحراك من مسألة مثل مسألة النفايات، لم يُتِح له التركيز على جمهور محدد، ولا العمل في دائرة واضحة القسمات والملامح، فكان على مجموعات من أصحاب الحراك والمبادرين إليه أن ينتشروا في أرجاء ميادين المدن وساحاتها، من غير قوام متماسك. فالنبتة الغضة باشرت عملها من غير عُدّة تدبير، ومن غير اتكاء على بعض التجربة المتراكمة، فانتحلت قواماً تنظيمياً خلوياً قوي الشبه بالمنظمات السرية، وبعض آخر اقتفى أثر أحزاب سياسية مركزية متداعية، وبعض ثالث قنع من العمل بمقابلات تلفزيونية وبتعليقات وسائط الاتصال الاجتماعية.

وقد يبدو مدهشاً نسيان جماعات التحرك صيغة الجمعيات العمومية، التي تناقش وترسم وتنتخب وتقيل، وتدعو المواطنين إلى تمثيل أنفسهم بأنفسهم، وإلى تقييد خطواتهم وأفكارهم بمناقشاتهم.

ولا بد من الإقرار بجدّة هذا التحرك، وبخوضه معتركاً سياسياً واجتماعياً لم يرث من ماضينا النقابي والحزبي إلا ما يحول بين الحراك وبين استقراءِ مسيرٍ مجزٍ. وما كان ربما يُتوقع من "المثقفين"، الرعاة والأوصياء والمشيرين، من إسهام في جلاء ملابسات هذا الحراك وشروطه والعقبات في وجهه... استبدل به هؤلاء الخطب الحماسية، والنصائح التنظيمية والبرنامجية البائتة والنافلة. وكانوا طليعة الإخفاق والتيه والمبالغة في تقويم قوى الحراك وغاياته.

* نشرت قبل شهر تقريباً، مع مهرجان "أشغال داخلية"، كتيباً عن تحولات العمران في بيروت... وأنت مشّاء المدينة، هل لا تزال بيروت كما وصفتها قبل أكثر من عقدين "مدينة موقوفة"؟

- الكرّاسة التي تشير إليها في السؤال تتناول ما أرى أنه ورم في جسم المدينة، أخشى أن يكون قضى قضاء مبرماً على تناسبها في حده الأدنى. فالأبراج والجنائن المعلّقة و"السماوات" (كما لا تخشى شركات البناء تسمية فعلاتها)، تقتطع من المكان المديني، ومن أفقه ومن موارده، شطراً قد يستحيل على بيروت بعد اقتطاعه أن تتماسك إطاراً ومساحةً ودوائرَ حياة وعمل ولهو. فسطو هذه الأبنية على شطر هو بمثابة الرئة من المدينة، به تتنفس وتطل على البحر وعلى الجبل، واكتظاظ هذا الشطر بجماعة من السكان يعزلها انشقاقها السكني عن عموم المدينة، وعن خدماتها ومواصلاتها ومرافقها العامة والمشتركة. فبدلاً من أن تستقبل المدينة خليطاً من السكان، ومن مراتبهم وطبقاتهم ومهنهم وعاداتهم وثقافاتهم، وبدلاً من أن تكون المصهر الذي من طريقه أو بواسطته تتصل الجماعات المتفرقة والمختلفة، تنصب العمارة الفاخرة، والمتحررة من سلّم المناسبة (التناسب)، جدراناً يستحيل اختراقها، ويستحيل كذلك الرسم عليها، على طريقة بانكسي أو على طريقة تاغ في محطات مترو الأنفاق بنيويورك ولندن وباريس وبوينس آيريس والقاهرة واسطنبول.

* أنت مثابر على التواصل مع الفنون الجديدة وشبانها، الفيديو آرت، الأنستلايشن، السينما، المعارض التشكيلية، البرفورمانس.. إلخ، كيف ترى مشهد الثقافة اللبنانية في السنوات الأخيرة؟

- أهذا سؤال يُسأل؟ الحق أن محاولة تألُّف الأشكال التي أحصيت بعضها، ومنزلة السينما منها رفيعة ومحورية، هو محاولة للبحث عما يقوم مقام ثقافة مكتوبة، أرى أنها بلغت قعر التفاهة والكذب والتشبيه والكسل. فمعظم ما يتوسل بالكتابة إلى تناول "الواقع" (الحوادث والوقائع والظواهر والأفكار والمشاعر..) مُلزم بمعالجة ما ترسّب في حياة اللغة من تزوير ونمطية وافتعال ورقابة وكبت. فنحن نتخاطب ونفكر ونروي، وربما نحلم، بلغات "عربية" توالى عليها عتاة التعمية والصمم والانقطاع من كل شيء حيّ. ومن سوء طالعنا، وطالع لغاتنا، وراثتها المقدسات على أنواعها. وهذه المقدسات تلزمنا بولادة واحدة من رحم واحدة وعلى مثال لا يحول، ويفترض أنه لا يزول.

وأظن أن الأحمال التي تنوء بها مناكب هذه اللغات، الميت جلها أو معظمها، لا ينوء بها عاتق الفنون والأشكال الجديدة. وهذا طبعاً تقدير نسبي، فسينما الشباب اللبنانيين (نساء ورجالاً) ومسرحهم ونتاجهم الفوتوغرافي و"التجهيزي"، يلتمع بتوليفات وتراكيب بالغة التعقيد والشمول والجدّة. وامتياز هذه الأعمال يحررها مما علق ويعلق بلغاتنا المكتوبة من قيود، ومن أكمام تكمّ الأفواه وتَعْقِل الألسنة.

* رغم صلتك اليومية بالإنترنت، أنت ممتنع عن اقتناء هاتف نقال (موبايل)، كما أنك لست متصلاً بـ"فايسبوك" أو"تويتر".. لماذا؟

- ما قد أقوله في هذا الموضوع هو من باب التبرير والاعتذار والتستر على ضروب من العجز والكسل وضعف الحيلة. وإلى هذا، يخالجني شعور حاد بأن هذه المطية لا تفضي إلا إلى ياجوج وماجوج من الإستعراض والاستظهار والاسترسال والاستدراج.. وأنا لا أملك قرينة قاطعة على ما تقدم من الزعم، ولكن بعض الجوس في هذه الأدغال القاحلة وخلائها، لم يحملني على تجديد النظر في هذا المذهب. ولا أكتمك أن مرتع الخصوصيات والحميميات والنميمة العميقة لم يلمس مني وتراً رناناً في عود. فعلى مثال قديم وفائت، لا أزال أحسب أن خاصّي يخصني وحدي، وأن خاص الآخرين يخصهم وحدهم. ولا أرغب في مشاركة هذا الخاص، على وجهيه، إلا من أختارهم ويختارونني طوعاً وتخصيصاً. وربما حملني على هذا الرأي شيوع كتابة تتستر بالرواية وبالشعر وبالمقالة الصحافية (المدعوة نصاً أو نصوصاً) على إفشاء صغائر ركيكة، يحسب أصحابها أنها صيدُ غوصٍ على أعماق الذات، وربما الكائن. ومن وجه أخير، أنا لا أحسب الناس عموماً، ومن أعرف منهم على وجه الخصوص، "أصدقاء" أو أنصاراً فضوليين. وأما التغريد، وأنا المبتلى بالتطويل في شهادة هذه المحاورة وجنايتها على القراء، فما لا طاقة لي به.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024