تحريم النحت في مصر.. إضمحلال

محمود الزيباوي

السبت 2016/04/23
إفتتح "السيمبوزيوم الدولي الأول لفن النحت"، أخيراً، في "جامعة بدر" المصرية وسط حضور دولي كبير. وجاء الإفتتاح بعدما أتمّ "سمبوزيوم أسوان الدولى للنحت" عامه العشرين، وبات متحفاً مفتوحاً يضم مجموعة كبيرة من التماثيل والأنصاب. تتوالى هذه النشاطات الفنية في زمن تراجع فيه فن النحت في مصر بشكل دراماتيكي عبّر عنه كاريكاتير من توقيع حلمي التوني يصور نفرتيتي وامرأة مصرية دامعتين، مع تعليق: "بلد علّم الدنيا فن النحت.. الشروع في إغلاق قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بعد إنخفاض عدد الطلبة إلى واحد فقط نتيجة خوف الطلبة بعد صدور فتوى التحريم".

في مستهلّ الحفل الختامي لـ"سمبوزيوم أسوان الدولي للنحت"، قال النحات آدم حنين: "من أعلى هذا الجبل تطل هذه المنحوتات الغرانيتية، لتقول إن الفن المصري والدولي يتعانقان فى مشهد إنسانى بديع، ليبلغ رسالة سلام إلى العالم أن مصر الحضارة والفن والثقافة. هنا يُبنى المستقبل المضيء فى مواجهة التطرف والهدم". وفي نهاية الحفل قدم الفنان وليد عوني عرضاً بعنوان "محمود مختار، من الفراعنة إلى آدم حنين"، شارك فيه نجوم "فرقة الرقص المسرحي الحديث" في دار الأوبرا المصرية. يختصر هذا العنوان مسيرة النحت الحديث في مصر، التي بات في الظل. 

أقامت مصر في ميادينها سلسلة من الأنصاب تخليداً لكبار زعمائها منذ القرن التاسع عشر، وكانت كلّها من صنع نحاتين أكاديميين من الغرب. أخذ هذا الفن طابعاً قومياً صرفاً مع ظهور محمود مختار، صاحب "نهضة مصر"، ويعتبر هذا النصب "أول تمثال في تاريخنا الحديث صنعه مصري"، كما كتب الشيخ مصطفى عبد الرازق. وتخطّت مصر بسرعة قضية تحريم الإسلام فنون التصوير والنحت، وعبّر الإمام محمد عبده عن هذا "التخطّي" في مقالة شهيرة رأى فيها أن فائدة الرسم "محققة لا نزاع فيها". وفي عام 1908، أنشأ الأمير يوسف كمال "مدرسة مصر للفنون"، وكانت أول "معهد للفنون الجميلة" في العالم العربي، وأوّل من التحق بها محمود مختار. لمع الطالب الشاب، فأرسله الأمير يوسف كمال إلى باريس ليكمل دراسته فيها، و"اكتشف" هناك ثراء ميراثه المصري، وعرض هناك تمثالاً أسماه "نهضة مصر". أثار هذا التمثال انتباه بعض كبار السياسيين والمفكرين المصريين، فدعوا صاحبه إلى إنجاز نصب كبير في القاهرة. استقدم مختار من أسوان إثني عشر حجراً ضخماً لتحقيق تمثاله، وأنجز عمله في ربيع عام 1928، واحتفلت مصر رسمياً بإزاحة الستار عن تمثال نهضتها في ميدان باب الحديد، بحضور رجال الدولة المصرية. 

اعتبر الدكتور سامي كمال أن مختار "ملأ ذلك الفراغ الهائل المظلم القائم الذي نام أثناءه أبو الهول ونام المصريون بجواره، إلى أن عادت إليهم الروح وثارت ثورتهم فهبط عليهم من السماء".

في الواقع، تراجع النحت وبدأ يضمحل مع انتصار المسيحية وتحولها ديناً وحيداً للإمبراطورية الرومانية في نهاية القرن الرابع، وتواصل هذا الاضمحلال في العصر الإسلامي، وذلك بسبب ارتباط النحت بالوثنية بشكل وثيق في الماضي. في الغرب المسيحي، تحرر النحت كلياً من ثقل التحريم في عصر النهضة. وفي الشرق المسيحي، وفي العالم الإسلامي، تمّ هذا التحرر في العصر الحديث. افتخرت مصر بميراثها الفرعوني في عشرينات القرن الماضي، وتعاظم هذا الافتخار بعد سقوط النظام الملكي وقيام الجمهورية، وظل محمود مختار رمزاً من رموز هذا الزمن في "العهد الجديد"، وكان له مريدون وأتباع على مدى أجيال. تغير هذا الواقع في زمننا، ودخل النحت في دائرة الظل مع عودة الحديث عن تحريم الصور.

طالب بعض السلفيين بتغطية التماثيل الفرعونية بالشمع، وقاموا بتغطية وجوه مجموعة من التماثيل الحديثة في الإسكندرية. في سوهاج، تمّ تحطيم رأس تمثال الرئيس عبد الناصر. وفي مدينة السينما في الهرم، تمّ إحراق تمثالٍ للمخرج السينمائي محمد كريم. وفي طنطا، حاولت بعض الجماعات الدينية تحطيم تمثال الكاتبة عائشة عبد الرحمن الشهيرة ببنت الشاطئ. طالب الشيخ يوسف البدري بهدم الآثار والأصنام والتماثيل الموجودة في مصر، وذكّر بأن الرسول حطّم كل الأصنام والأوثان التي كانت حول الكعبة الشريفة يوم فتح مكة. كذلك، نادى الشيخ مرجان سالم الجوهري بتحطيم نصب أبي الهول والأهرامات والتماثيل، وأكّد أن "المسلمين مكلفون تطبيق تعاليم الشرع الحكيم، ومنها إزالة تلك الأصنام كما جرى في أفغانستان". وأظهر تحقيق نشرته "الأهرام" أن العديد من الطلبة الجامعيين يبدون آراء مشابهة، مما يعكس الهوة التي تكبر بين النحت وجمهور العامة في مصر اليوم.

في زمن ثورة 1919، غنّى سيد درويش: "أنا المصري كريم العنصرين/ بنيت المجد بين الإهرمين/ جدودي أنشأوا العلم العجيب". وفي زمن عبد الناصر، غنت أم كلثوم: "شوف آثار أجيال ملو الدنيا حضارة وابتكار/ علموا قلب الحجر يوصف معارك الانتصار". منذ ثلاث سنوات، كتب أحمد عبد المعطي حجازي في جريدة "المصري اليوم": "الحضارة الفرعونية التي علمت البشرية منسية، أو بالأحرى منفية ومهددة وممنوعة من أن تحتل مكانها في ثقافتنا الحديثة، فإن كانت لها وظيفة تؤديها فهي مقصورة على جلب السياح الأجانب والحصول على عملاتهم الصعبة". بعد فترة وجيزة، صرّح النحات صبرى ناشد بأنه أرسل بعض أعماله للخارج خوفاً من التيارات المتشددة، وقال إنه شعر يومها بأنه هاجر خارج بلده، ولولا خوفه مما يمكن أن تتعرض له ما كان ليسمح بخروجها.

في ظل التحولات هذه، وعلى مثال "سمبوزيوم أسوان الدولى للنحت"، يحاول "السيمبوزيوم الدولي الأول لفن النحت" في "جامعة بدر" تكملة مسيرة النحت التي انطلقت في زمن محمود مختار، وازدهرت في زمن آدم حنين، قبل أن تتعثر وتتراجع إلى هامش الحياة الثقافية. ويُمكن القول إن تحقيق هذا الحلم اليوم لن يتم في القريب العاجل.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024