"باريس عيد": المدينة كفيلم

روجيه عوطة

الجمعة 2018/10/12
ليس هذا الفيلم كغيره. فلم تملك مخرجته إليزابيت فوغلر (اسم مستعار- ولها شريط وثائقي بعنوان "مغسلة الملابس العامة في فرنسا") المال الكافي لإنجازه، فقررت الركون إلى المدينة بما هي فضاء أحداث، جاعلةً منها منصة لوقائع الفيلم. بالتالي، لم يعد الفيلم يدور على أساس سيناريو صنع مسبقاً، بل يستند إلى ما تقدمه المدينة، وعلى أساسه، يمضي في جريانه، أو بالأحرى في تأليف السيناريو الخاص به.


ويمكن تلخيص السيناريو هذا في قصة شابة تقع في حب شاب تقرر زيارته في إسبانيا، لكنها تكتشف نسيانها جواز السفر في المطار، فلا تسافر، ولاحقاً، تتعرض طائرتها لحادث يودي بها. تؤدي نوييمي شميدت دور الشابة، ويؤدي غريغوار إزفارين دور الشاب. أما غالبية الشخصيات حولهما، فليسوا ممثلين، بل أناس كانوا يمرون في الشوارع والطرقات والساحات. في النتيجة، كل ما يحيط بقصة الفيلم الكثيفة تلك، والتي تساوي بين استحالة اللقاء والنجاة من الموت، ليس كناية عن تأدية، فالبَطَلان يدخلان هذا المحيط العفوي ويعيشانه ارتجالاً.


قد تصح مشاهدة هذا الفيلم بوصفه إشارة إلى إزالة الحد بين موضوع التصوير وما سواه، أو المتفق على كونه ليس موضوع التصوير. إزالة للحد بين المكتوب لتمثيله -أي السيناريو- وبين غيره الذي لا يستند إلى مرجع نصّي مرئي أو معلن. إزالة للحد بين التأدية، وبين غيرها الذي يختلف عنها باعتباره ليس مقصوداً وليس تحقيقاً دقيقاً وجامداً لدور معين.

كل هذه الحدود جرى الانتهاء منها. وعلى المنوال هذا، لا بدّ من مضاهاة الفيلم بغيره الذي يتشابك معه، ولكي ينسجما، عليهما أن يتوازنا، وعلى الكاميرا أن تحقق ذلك. بعبارة أخرى، يتوجب على التأدية ان تتلاءم مع العيش الدائر حولها، وعلى الكاميرا أن تصور هذه التأدية بطريقة تبديها بها متكافئة معه، ومن هنا تحدي التأدية والتصوير على حد سواء.

وفي الوقت نفسه، على المدينة، بما هي فضاء أحداث، أن توفر للفيلم منصة بوقائع لا مناص من حلولها. ليس بحدوث كثير فحسب، بل بميلها إلى تقديم هذا الحدوث في شكل مؤاتٍ للفيلم، في عرض يجانب صناعته لعرضه. وأن تقدم المدينة حدوثها على هذا الشكل، فهذا لا يجعله بلا وقع، بل يجعل وقعه محصوراً، وظائفياً أو جغرافياً.

في هذا السياق، يصير لاختيار عنوان "باريس عيد"، علامة على أن حدوثها حدوث بوقع محصور وظائفياً، أي بوظيفة الإحتفاء. مثلما تصير التظاهرات ضد قانون العمل، كمحور في إعلان الفيلم، علامة على أن الحدوث إياه هو حدوث بوقع محصور جغرافياً في ساحة من الساحات. فحين تكون باريس على شكل الحدوث ذاك، تكون موائمة للفيلم، ومجاورة له، كما تكون، وبمبالغة بسيطة، مُنتجَة من أجله.


بهذا، يستوي إخراج الفيلم على ذهاب واياب، منه إلى المدينة، ومن المدينة إليه: التأدية في الفيلم هي تأدية مع عرض المدينة، وعرض المدينة هو عرض لتأدية الفيلم. فيلم معد للمدينة ومدينة معدة للفيلم. جريان الفيلم، مواصلة للمدينة. وعيش المدينة، إمداد له بالاستمرارية. ثمة تسلسل إذاً، بحيث أن الفيلم جزء من سلسلة المدينة، سلسلتها المتعلقة بحدوثها كعرض. كما أن المدينة هذه تشتمل على الفيلم كأنه حلقة فيها، ليس حلقة نهايتها أو بدايتها، بل حلقة في معرضها.

بعد ذلك، ليس صدفة أن الفيلم لم يجد مطرحه في صالات السينما، بل في "نتفليكس" (مطلع العام المقبل)، بنظام التسلسل والمواصلة المرئية الذي يكلل ويسجل صلة الاستمرار بين المدينة وفيلمها. لقد قال المنتج لوران روشت، وبسبب فرحه بتبنّي شبكة "نتفليكس" للفيلم، أنه لا فرق بينها وبين السينما. طبعاً، هذا الكلام ليس دقيقاً، ليس بسبب تعارض بينهما، بل لأن برمجة "نتفليكس" هي أوج السينما، التي، وبتكثيرها ودفقها، تؤدي بها إلى الانتشار الساحق، إلى جعل صناعتها فاقدة لندرتها، زمنها وهمّها. دليل من الأدلة على ذلك، أن لقب "صانع الأفلام" حل محلّ "السينمائي". لكن هذا موضوع آخر!

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024