سعاد جروس... رياض الريس "صحافي المسافات الطويلة"

المدن - ثقافة

الأحد 2020/09/27
الحوار مع "صحافي المسافات الطويلة" الناشر رياض نجيب الريس، ليس حوارا تقليديا، وان بدا شكله كذلك، فهو لم يتم كما جرت العادة على عدة جلسات تم تسجيلها وتفريغها وصياغتها وتحريرها، وإنما هو حوار جرى بين طرفين تفصلهما مسافات بعيدة في عمر التجربة المهنية وفي الجغرافية، أحدهما في بيروت و الآخر في دمشق. بيروت؛ العاصمة التي لم تغسل بعد وجهها من غبار الحرب الأهلية، ودمشق؛ العاصمة المستجدة على كوارث النزاعات الداخلية. 

عاصمتان انتمى إليهما رياض نجيب الريس. ولد وعاش طفولته في دمشق، ونشأ وتعلم وعمل في بيروت. فكان ابناً لمدينتين تعاقب على تاريخهما المشترك فصول من الغرام والانتقام. تنفس المدينتين حتى التبست هويته ما بين سوريته ولبنانيته، وراحت احداهما تغالب الأخرى، أودعهما عمق وجدانه، ومضى بعيدا يلاحق الفكرة الحرة والمعلومة الدقيقة، ليبني أمجاده الصحافية من متابعة الأحداث في الخليج العربي ابان انسحاب الاستعمار البريطاني، وتغطية  أهم الأحداث الجارية في انحاء العالم ما عدا سورية ولبنان، البلدين اللذين انتمى اليهما وتهيب من مقاربة شؤونهما، بما فيها تلك التي دفعت عائلته لمغادرة دمشق، والأخرى التي جعلته يغادر بيروت في هجرته الأولى الى بريطانيا.

 بعيدا عن العاصمتين طارد الحرية المفتقدة في الصحافة، حتى انهكته المطاردة، ليعود الى بيروت كمحارب يجيد اشعال المعارك ولا يعرف التوبة أو الاستسلام، من بيروت اطل على دمشق، خدعته الابواب المواربة، ظن انها ستفتح له على مصراعيها، لكن ذلك لم يك سوى اضغاث أحلام.

 واليوم إذ يجلس أمام صندوق الذاكرة مثل لابس المسوح الصفراء الكاهن البوذي الذي التقاه بفيتنام، يعيش قلق بيروت، وقلبه على دمشق متمنياً: "لو أن اللبنانيين فهموا السوريين أكثر ولو أن السوريين تعلموا من اللبنانيين اكثر". يتأمل  وينتابه الحنين.. يتألم .. يضحك.. تدمع عينه.. ومثل ذلك الكاهن البوذي يقود ثورته الخاصة، مسبغاً على نفسه لقب "صحافي متقاعد" وهو ليس بمتقاعد، وإن اقعده ظرف صحي طالما حذره منه أطباء اصدقاء، احدهم الدكتور عبد السلام العجيلي الذي دأب على نصحه بأن الفشل الكلوي قادم ما لم تكبح افراطك بالإقبال على الحياة!! لكن شغف المغامرة كان اقوى من أن يقاوم، ربما راهن على جسدِ ولِد في دمشق وجبل من ترابها، لكن دمشق ذاتها فشلت كلويا! وتخضع مثله لغسيل كلى منهك. 

وها هما دمشق وابن دمشق يكافحان الاحباط واليأس فيما يتراءى لهما من بعيد سراب الحرية.
على وقع قرع الطبول في بيروت، ودوي الهاون في دمشق، جرى هذا الحوار الطويل فكنت أحياناً اذهب اليه في بيروت، وغالب الأحيان احدثه بوسائط الاتصال الحديثة، واقلب معه اقفال الذاكرة المثقوبة، حين لا يحتاج تدفق الحوار لمفاتيح وأسئلة سبق اعدادها، بل يتدفق عفويا غزيراً ، نحو مسارات عديدة ترفدها حصيلة صداقة امتدت على أكثر من خمسة عشر عاما. لتحضر الذكريات المشتركة بكامل بهائها. فكنت وانا استعيدها مع كل كلمة، وكل سطرٍ أغبط نفسي عليها؛ كم كانت تلك الذكريات مع شيخ الكار رياض نجيب الريس ممتلئة بالنعمة والمعرفة. 

في مكتبه بالطابق الرابع من بناية الاونيون في منطقة الصنائع، حيث كانت تنعقد امتع الجلسات المهنية يوميا وعفويا فور التقاء ثلة من زملاء المهنة أو من مبدعين وكتاب لبنانيين وعرب يقصدون دار رياض نجيب الريس للنشر، لمتابعة أعمالهم، أو لإلقاء التحية، وسط عالم رحب تزينه مفردات الورّاق الذواق من لوحات النادرة وملصقات وصور فنية وكتب وصحف ومجلات وآخر الاصدارات.

 وجلسات أخرى لا تقل بهجة وفائدة تنعقد أثناء تحرير"النقاد" او تحضير كتاب للنشر، لقاءات شاركت في بعضها مصادفة، ورأيته يتجول بين مكاتب المحررين، تسبقه ملاحظات اللماحة التي لا تخلو من تهكم أو نكتة بنت لحظتها، للحث على تخفيف الثقيل من هموم المهنة، وتثقيل الخفيف من أخبار اهل الكار، وتلميع الباهت ولفت الأنظار، بإيقاع متناغم بين الجد والهزل يحرك الراكد في مستنقع الثقافة، ويشعل المعارك في شوارع الصحافة. 

 كنت اتابعه بكامل التأهب لأعوض ما فاتني من أسرار الصنعة، التي درستها في الجامعة مادة جافة لا روح فيها. فأذهلني ولعه باختيار العنوان "المصيدة" الذي يثير الفضول، فيجذب القارئ النهم ويورط الكسول. ولفتتني لمساته الأخيرة على تصاميم الأغلفة، لتأتي أنيقة مترفة، كوجه صبوح لا تملّه العين إن تصدّر المكتبة. 

وبعين صبي أودعه أهله ورشة لصياغة الذهب لتعلم الكار، راقبته بتنبه تام، ولعل أول ما حفظت عنه نصيحة دائمة "إياكم والغرور.. الغرور مقتل الصحافي" وأن الحرية أول وأهم أركان الصحافة "لا صحافة بلا حرية"؛ الحرية تلك الكلمة السحرية التي كانت سرّ البريق في كلماته، وأيضا سرّ تحمّس الكتّاب للمشاركة في مشاريعه والنشر في داره، ولكنها أيضاً كانت سرّ توجس الداعمين من وخزات قلمه المتحرر من اي سلطة عدا سلطة العقل، فكان من الطبيعي أن تواجه مشاريعه القمع والمنع والتمويت بتهمة "الجرأة"!! في بلاد تشطب من قواميس صحافتها كلمة حرية. 

في هذا الحوار نخوض مع "صحافي المسافات الطويلة" في كواليس المهنة الشقية، فنقرأ طرائف قد تبدو باسمة لكنها في حقيقتها بائسة، إذ تكشف وهم السلطة الرابعة، وكذبة صاحبة الجلالة، عندما يضطر كبار الصحافيين للوقوف على اعتاب المتسلطين والممولين لتسول ما ينقذ صحفهم من الموت الذليل، وكأنما قدر "الصحافة الحرة" في بلادنا أن تبقى كالأيتام على موائد اللئام.

الا أن "آخر الخوارج" لا يعرف اليأس، طالما عينه على الأجيال الجديدة تنقب عن المواهب الكامنة، فيرى في كل صحافي شاب لمّاح زميلاً ندياً، يتابعه ويشجعه على بذل المزيد، حتى يصح فيه ما قاله أحد رفاقه  عنه يوما انه لا يملّ من "مكافحة الكسل". وله في هذا الكفاح صولات وجولات، حين كافح كسل القارئ العربي النخبوي بإصدار مجلة "الناقد" التي أثارت ما أثارت من صخب خرق جدار السكوت، كاشفا هشاشة أنظمة ارعبتها اقلام حرة وجدت ضالتها في مجلة تغرد خارج السرب، فكان لـ"الناقد" صدى مازال يتردد في الذاكرة الثقافية العربية رغم مضي أكثر من عشرين عاما على توقفها.

 وكافح رياض الريس الكسل عند القارئ العادي عندما اصدر مجلة "النقاد" كوجبة خفيفة تلخص اهم الأحداث بصياغة رشيقة، وقالب فني ذكي، يؤدي رقة سريعة تحت عناوين فلاشات وقفشات مبهرة، فكان أول من نادى بالاختزال، قبل غزو مواقع التواصل الاجتماعي وتحديد عدد حروف المنشوربـ(140 حرفاً). إلا أن أهم جهوده في مكافحة الكسل، تبقى في تحريضه الكاتب على مواصلة الكتابة بلا توقف، فيسأل عن انتاجه التالي قبل أن يصدر كتابه من تحت الطبع، ولا يتوانى عن تكليف باحثين للنبش في موضوعات مستجدة، ويمكن لي الزعم بأني ممن نالوا شرف تحريضه الخلاّق، وعندما تقاعست لأسباب لا مجال لذكرها، كانت كلمته: "المهم ان لا تنسي انك كاتبة" . فهذا الصحافي الذي لا يعرف التقاعد، يجبرك ذهنه المتوقد على البقاء في حالة تأهب، للرد على المفاجآت، ولصد الاتهامات بالتقاعس والانشغال بالنوافل. فينصح بتعلم اصول الطبخ بدل تضييع الوقت إن لم يكن هناك افكار جديدة أو رغبة في الكتابة.  

وهذا الكتاب ضمن هذه الأجواء من التحريض. فكان فرصة لي للتسلل عبر ثقوب ذاكرته وانتقاء ما ادهشتني طزاجته من احداث مرّ عليها عقود، مع مراجعة لمجمل مؤلفاته التي تزيد عن الثلاثين كتابا، فجاء هذا الكتاب حواراً، عن ومع، صحافي تمنيت لو أني كنته يوما، أو أن أكونه يوما.

وبنزق ورشاقة الحديث اليومي الاعتيادي معه جرى هذا الحوار، من حيث التنقلات السريعة والمفاجئة في المكان والزمان، وسيجد القارئ نفسه أواخر عقد الستينيات من القرن الماضي يتجول في ثلاث قارات؛ آسيا، أفريقيا، أوروبا، تارة يطير على متن طائرة عسكرية، وأخرى مشحوناً مع بضائع تجارية، وثالثة على متن طائرة تغير وجهتها في ارض مجهولة، وسيصل الى أقاصي المعمورة، ويتعرف على عادات عجيبة ويتعرف على مأكولات غريبة، هو ينفض عن ملابسه غبار المعارك، ليبقى السؤال: من اين كان يأتي بكل هذا الشغف للمغامرة الصحافية الخطرة ، هذا الشاعر الشاب خريج كمبريدج المنعم!

تتنوع وتتشعب موضوعات الكتاب لتغطي ما امكن من تجربته الحياتية والصحافية الحافلة بالأحداث، والتي يتصل أغلبها بأحداث اليوم، فنقرأ في تغطيته لحرب فيتنام، سيناريوهات الحروب التالية، ونرى في الزعيم البوذي الذي يدير من صومعته حربه الدينية، صورة عن زعماء الدين اليوم الذين يخوضون حروبهم في ساحات تعددت جبهاتها وأهدافها. كما نتوقف عند جذور النزاع بين القبائل اليمنية، ونجد فيها ما يقربنا من فهم الاحداث الجارية هناك، لاسيما حين يطالعنا نموذج "الزعيم الداهية" قبل تطوره الى نموذج "الرئيس المخلوع". 

في الجنوب العربي نتّعرف على سلطان المُكلا أصغر سلاطين العرب، وكيف لم يعثر الصحافي الوحيد الذي التقى به، على صورة له في كل أرجاء السلطنة، التي احتلت شوارعها صور جمال عبد الناصر ويحيى السلال وعبد السلام عارف. وفي سلطنة عمان سنفرح مع العمانيين بالخروج من غياهب القرون الوسطى، بعد انقلاب قابوس بن سعيد على والده سعيد بن تيمور، ونكتشف أن القرون الوسطى لا يفصلها عن حاضرنا العربي سوى بضعة عقود. أما في عدن المحمية البريطانية سيأخذنا صحافي المسافات الطويلة في جولة تحت الشمس الحارقة و كبطل في فيلم انكليزي كولونيالي، سيقيم في أغرب وأجمل الفنادق كالفندق الذي نزلت فيه الملكة اليزابيت، وأماكن أخرى زالت من الوجود. وفي صفحات هذا الكتاب سنعيش اجواء الانسحاب البريطاني من الخليج العربي، ولن يصيبنا الملل ونحن نقرأ عن ساعات الانتظار الطويلة  في خيمة القذافي وحفلة جزّ صوف الغنم. وقد نعجب لخروج الصحافي الملول من تلك الخيمة سريعا خالي الوفاض الا من قصص اللامعقول. 

في براغ سنبكي ربيعنا العربي ونحن نرى جنازير الدبابات الروسية تدهس زهور ربيع براغ، ونعيد النظر في سحر القصائد حين تكون سلاحا شعبيا تملأ الحيطان بشعارات الحرية، وقصة ليلى والذئب حين تغدو رؤية ثورية. وسيذكرنا أول انقلاب عسكري في اوروبا الذي حصل في اليونان، بمسلسلات الانقلابات العسكرية العربية، وفي قبرص لا مناص من التعاطف مع صحافي يجهد في استنطاق المطران الصامت، فيفوز بحضور قداس جنائزي، وقطعة قربان مقدس يحملها الى رئيس التحرير في بيروت. 

الا أنه وقبل أن يقطع الحوار كل تلك المسافات سيروي رياض نجيب الريس بكثير من المرارة قصة عودة الابن المضلل الى سوريا ومشروع "القبس" المجهض. موضحاً أسباب عقدة الأب لديه، وتأثره بكفاح الأم واصرارها على متابعة مسيرة الاب المهنية، ويأخذ الحديث مجراه عن التلميذ الصحافي في مدرسة برمانا، الذي سينهل من الثقافة الانغلوساكسونية، ويتشبع بالعقل السياسي الانكليزي، في بريطانيا، من دون أن يلغي ذلك عروبته، حتى استعصى على التصنيفات الضيقة، ليعرف بعروبته الصافية وفكره الليبرالي الحرّ. كأحد أبناء جيل انتمت اليه نخبة من الاعلام ممن تخرجوا من المدارس والجامعات الانكليزية والاميركية وكانوا من أشد المنافحين عن الهوية العربية الجامعة. وفي هذا الكتاب نتعرف على بعضهم من أعلام الأدب والصحافة، ونقرأ صفحات من سير حياتهم التي لا تخلو من طرف ونوادر واحداث جرت في مناخ حرّ صنعه ابطال من ذلك الزمان، وتبين الى أي درك انزلقت حياتنا الصحافية والثقافية اليوم، وحجم الكارثة التي نعيشها مع اختناق الفضاءات واتساع بقع الموت والدمار.

وكما في أي حديث صحافي مع رياض نجيب الريس، لابد من اعادة رواية سير "المنار" و"الناقد" و"النقاد" ودار النشر ومكتبة كشكول وسائر مشاريعه الناجحة التي تنفست من رئة واحدة، والتي هي رئته وحده، فاكتسبت حيويته دون أن تمتلك القوة الكافية للاستمرار، حين يكون ثمن الإيمان المطلق بحرية  الصحافة باهظا، ليس أقله الافلاس المالي ولا اقصاه الموت وقوفا.. لكن رياض الريس عصيّ على الترويض، وإن أقرّ بانه لا يتعلم من فشله، فالحق أنه لا يرّوض.

وأن كان هذا الكتاب يكشف حيثيات غير معروفة أو يعيد أحداث سبق وتناولها في مؤلفاته، فإنه كتاب عن رياض نجيب الريس الصحافي المخضرم والناشر المعروف، أما الصديق والإنسان الذي عرفته في جلسات الرفاق خارج اوقات العمل فالحوار يلتقط منها قصصاً مما كان يرويه حول مائدة عامرة  لا بد منها لتكريم الاصدقاء والزوار، حتى صح في وصفه المثل الشعبي "كرم على درب" فما من احد يمر بهذا الكرمة الا ويقطف من عناقيدها عنباً  يقطر حلاوة وعذوبة. 

 جلسات يبدو فيها رياض الريس الذي يحب طائر البوم ويكره التبويم بارعاً في جذب الاصدقاء قدر براعته في صناعة الأعداء، كمحارب قديم ينعشه صليل الآراء والرؤى المختلفة، سواء في التجمعات الثقافية التي كان يدعو اليها في الأماكن العامة أو في منزله العامر بالفن والأناقة، أو في جناح دار الريس بمعرض الكتاب الدولي في بيروت. فيجذب حوله الظرفاء من النخب الثقافية والسياسية، لتتلى بحضرته قصص لا تروى في تجمعات أخرى، فيها من خفة الدم والنميمة المستحبة بقدر ما فيها من الأفكار المبدعة. ولا مبالغة بالقول أن أطياف حضوره المتعددة كانت على الدوام حاضناً حيوياً لكل جديد وظريف. فلا يبدو غريبا عليه تقدمه الى الناطق الرسمي في مؤتمر قمة عدم الانحياز عام 1983 باقتراح لتغيير شعار المؤتمر من حمامة سلام الى بومة، لان البومة طائر ليلي يتصف بالحكمة والصبر وبعد النظر، في حين ان الحمامة طائر نهاري وديع وأليف. وجلسات المؤتمر تمتد طيلة الليل الى ساعات الصباح يتدفق فيها الكلام أنهارا ويتوالى على منصتها رئيس وراء رئيس الى مالا نهاية!! ويقول أن مقترحه رفض لأن عدداً كبيراً من اعضاء المؤتمر يتشاءمون من البوم!!

وأنا أضع "كتابي" هذا بين يديه قبل أن يصل الى القارئ، آمل أن يقرأه بعينيّ لا بعينيه، ومن موقعي لا من موقعه، ومن زماني لا من زمانه، ليعرف صحافي المسافات الطويلة كم كان يشبه طائر البوم ببعد النظر حين كتب عما سيؤول اليه مستقبل مجتمعات لم تتذوق يوماً طعم الحرية.
(*) مقدمة كتاب (صحافي المسافات الطويلة / رياض نجيب الريس في حوار مع سعاد جروس)، ننشرها بالاذن من الكاتبة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024