شتائم الجميلات في ربيع لبنان.. صلاة

تهامة الجندي

الخميس 2019/10/24
منذ أن وقع نظري على صورة السيدة اللبنانية التي تحمل لافتة، كُتب عليها "بتسو صرامية"، وأنا لا أقوى على مغادرة الفضاء الأزرق، اتابع من منفايّ انتفاضة اللبنانين بحبٍّ غامر، وامتلئ بالفرح مع كل إشراقة ترسلها ساحات التظاهر. فرح جماعي ما كان لي أن أعرفه، لولا ابتسامات الربيع التي زينت عالمنا الحزين رغمًا عن الديكتاتوريات التي تحكمنا. فرح يتجدد في أعماقي كلما سمعت هتاف "الشعب يريد إسقاط النظام"، ولربيع لبنان وقع خاص، تمليه حيوية المجتمع المدني، وحرية التعبير التي لم تعرفها أي من البلدان المجاورة.

أضع قلبي على صور المتظاهرين والمتضامنين، وتفتنني العبارة التي كتبها أحمد قعبور: "واعشق عمري لأني نازل عالساحه"، أطل على حبيبتي بيروت، ويكبر تقديري للحضور الأنثوي الجميل، الذي لا يهاب كسر تابوهات الذهنية الذكورية، وكم تسحرني صورة العاشقين المتعانقين على خلفية الإطارات المحترقة، كأنها لوحة الطوفان، وولادة حياة جديدة من رحم انتفاضة الحب والشراكة الفعلية ما بين المرأة والرجل.



أتابع أصدقائي السوريين وأضحك، عمر قدور يكتب: "صرّح جبران باسيل برغبته زيارة الأسد فاندلعت المظاهرات. طبعًا لا رابط بين الاثنين سوى ما صار معروفًا باسم: لعنة بشار". ويعلق الكاتب مصطفى علوش على لافتة "مش مزبوطة يحكمونا ولاد شرموطة"، بقوله: "يُسمح لنا كسوريين باستعارة هذا الشعار من مظاهرات لبنان، بسبب تشابه وتطابق ولاد الشرموطة في البلدين". وتقول رشا عمران: "الجيوش العربية ولاد شعوبها فعلًا، وحده الجيش العربي السوري ابن حرام"، فيما يكتب الصديق الفلسطيني السوري راشد عيسى: "لا أستسيغ الشتائم، لا في الكتابة ولا في سواها، غير أنها في الحالة اللبنانية صلوات".

تفاعل وتضامن عميق على أرضية القهر المشترك الذي صنعه نظام الأسد وحزب الله في سوريا ولبنان، وليس مجرد موقف أخلاقي من قضية عادلة، وترحيب المتظاهرين باللاجئين السوريين فجّر موجة عارمة من الغزل والتحيات المتبادلة بين الطرفين، وثمة من استعاد ذكرى اغتيال سمير القصير، وأحس بروحه تحوم بين المتظاهرين، وثمة من ترحم على روح هاني فحص، وتعاطف مع مأساة ابنته، وكتبت آية الأتاسي: "بادية فحص... أمومة تصادرها المحاكم الجعفرية وولاية الفقيه.. يا لوجع أم يقف ابنها على بعد خطوات منها، وبعد عشرات السنين ولا تستطيع تقبيله". لكن عبارة "كلّهن يعني كلّهن.. نصر الله واحد منهن"، أضحت بيت القصيد الذي ردده الجميع، ورسمه منير الشعراني في لوحة حروفية.

أقرأ وأتأمل مهرجان الفرح، ومع كل لقطة تعيدني ذاكرتي نحو مشهد البدايات، نحو لحظة الإدراك الكامل أننا لسنا مواطنين، بل أسرى في مزارع يحكمها الطغاة والفاسدون، ولحظة الخروج الجماعي إلى الشارع للتعبير عن الذات المحرومة من أبسط الحقوق، لحظة تاريخية مباغتة فجرها بوعزيزي بإحراق نفسه في تونس قبل عشر سنوات، ثم انطلقت "ثورات الربيع العربي" واحدة بعد الأخرى، ولا تزال تمتد من بلد لآخر رغم لجوء السلطات الحاكمة لكل أشكال الانتهاكات والعنف المفرط من أجل إخمادها، لاسيما في سورية التي سجلت أبشع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. 

كل الثورات ومظاهر الاحتجاج في العالم العربي بدأت بالأناشيد والتندر على الحكام والمسؤولين، ونشرت الفرح والأمل بين الجموع، كلها احتفت بحضور المرأة، وسجلت رغبتها في كسر طوق الاضطهاد المركب الذي تعاني منه، وتحضرني صورة علياء المهدي العارية على الفيسبوك، وهي تتحدى جريمة التحرش بالمتظاهرات المصريات واغتصابهنّ، الصورة التي رسمها عمار أبو بكر على جدران كلية الفنون الجميلة في الأقصر. تحضرني شهادة سميرة إبراهيم ورشا عبد الرحمن وسلوى الحسيني جودة حول تعرضّهن للضرب والصعق بالكهرباء، وفحص كشف العذرية المهين. تطل عليّ توكل كرمان من خيمة التظاهر 

في اليمن، وأصغي إلى غناء الكنداكة آلاء صالح في السودان. أرى لجين الهذلول تدافع عن حقها في قيادة السيارة، ويحزنني أنها لا تزال معتقلة في سجون المملكة السعودية.

أذكر العدد الكبير من السوريات اللاتي اعتقلهنّ الأمن لمشاركتهنّ في الاحتجاجات منذ التظاهر أمام وزارة الخارجية للإفراج عن المعتقلين يوم السادس عشر من آذار 2011، أذكر أول بيان لفك الحصار عن أطفال درعا أطلقته ريما فليحان ويارا صبري على الفيسبوك، أذكر ليلى شويكاني ولما الباشا ورحاب علاوي اللاتي قُتلّن بالتعذيب في سجون الأسد، رزان زيتونة وسميرة الخليل المخطوفتان منذ عام 2013، أذكر الراحلات في المنفى فدوى سليمان ومي سكاف ورانية الأسود. وبإمكاني أن أحصي الآلاف من القتيلات والمعتقلات والمخطوفات والمغتصبات والمهجرات قسرًا، وآلاف الناشطات والأكاديميات والفنانات والكاتبات والإعلاميات، اللاتي يرسمّن تفاصيل اللوحة الزاهية عن حضور المرأة في الثورة السورية.

أتأمل صور الجميلات بكل المعاني، اللاتي يسهمن في غرس بذور الربيع وريها بعرقهنّ ودموعهنّ ودمائهنّ، في لبنان وفي جميع البلاد العربية التي عرفت نعمة التظاهر والاحتجاج، وأتمنى لنا جميعًا الخلاص القريب من حكم العسكر والطوائف والأصوليات الدينية، إذ ما من إهانة بحقنا أكبر من الإدعاء أن لا بديل لنا عن أنظمتنا وحكامنا، والتغاضي عن حقيقة أن النظم المستبدة والفاسدة هي التي تمنع ظهور البدائل بكل ما أوتيت من قوة لضمان بقائها، ولا سبيل لبناء دولة المواطنة إلا بإسقاطها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024