الذين حدقوا في وجه الموت..شهادتان لأديبين تعافيا من كورونا

وجدي الكومي

الإثنين 2020/07/06
الموت.. هو الزائر الذي لا يصدق أحد أنه قد يحضر.. حتى يحضر، والوباء، هو الموضة القديمة من الطواعين التي أصابت العالم القديم، فلم يعد أبناء عالمنا الحديث يصدقون به، وكأنه دين جديد.. لا يمكنهم أن يتصوروا حدوثه، أو ابتعاث نبي ليبشر به.
 
لكن حدث، واجتاح العالم وباء، على الموضة القديمة، يصيب أول ما يصيب الرئات، وينتقل عبر الزفرات، والسعال والعطس، وهكذا ما كنا نتصوره موضة قديمة في عصر السمارت فون والسوشيال ميديا والتقنيات الحديثة والسفن والطائرات والمركبات والغواصات، أصابنا، فأبطل عمل كل هذه الموجودات، وعقمت وسائل الحضارة الحديثة عن مواجهة عدو خفي ينتشر عبر الوجود بسعالنا وعناقنا وتنفسنا المتقارب. وهكذا صار من الواجب علينا أن نبتعد، كما في الموضة القديمة لمواجهة الأوبئة والطواعين، بالخروج إلى الخلاء، أو البقاء في المنازل.

في "ملحمة الحرافيش" لنجيب محفوظ، يقول الراوي:
«ماذا يحدث بحارتنا؟
ليس اليوم كالأمس، ولا كان الأمس كأول أمس، أمر خطير طرأ، من السماء هبط أم من جحيم الأرض انفجر؟ وهل تجري هذه الشؤون بمحض الصدف؟ ومع ذلك فالشمس مازالت تشرق وتقوم برحلتها اليومية، ماذا يحدث بحارتنا؟ وجعل يراقب شمس الدين الثمل بالانهماك في الرضاع ويبتسم، ورغم كل شيء فهو يبتسم وقال:
ميت جديد، ألا تسمعين الصوات»

وهكذا كما صور محفوظ في هذه السطور، بدايات انتشار الطاعون في الفصل الأول من الملحمة، المعنون "عاشور الناجي الحكاية الأولى من ملحمة الحرافيش"، وزحف الموت على الناس وأكلهم أكلاً، بدأنا نسمع عن الموت عبر صفحات "فايسبوك"، وكنا نتصوره بعيداً. البعض ردّه لغضب الله، والبعض صوّره جندياً من جنود الله، ووصفه محفوظ قبل وباء كورونا بأربعة عقود (صدرت الحرافيش العام 1977) بأنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة، ويقول على لسان الراوي:
«اسمعوا كلام الحكومة.. تجنبوا الزحام.. تجنبوا القهوة والبوظة والغرز.. والنظافة النظافة.. اغلوا مياه الآبار والقرب قبل استعمالها.. اشربوا عصير الليمون والبصل».

وهكذا منذ أن بدأت الكورونا، هربنا منها، وانزوينا، جربنا تطبيقات ممارسة الرياضة من المنزل، اجتمعنا بتطبيقات الاجتماعات، جالسنا الأصدقاء ومن اعتدنا صحبتهم أون لاين، ضجت البيوت بالشجارات، ونهرنا أطفالنا لأهون الأسباب، وضاقت الحيطان بنا، واستكتبنا بعضنا بعضاً بحثا عن نصائح تزجية الأوقات، وكتبنا الموضوعات الصحافية عمن يتعلمون اليوغا، واللغات، ويكتشفون زراعة البلكونات، إلا أن الخوف من الموت، ظل هو مُحركنا، وباتت كل تصرفاتنا محاولة للتلهي عنه. هنا في السطور التالية، يُسجل أديبان مصريان شهادتيهما عن مواجهة الكورونا، عن التعافي منها. شهادات من أطلوا قبالة الموت، وعادوا سالمين.

أدهم العبودي: الأموات حاسبوني 
«استهترت بالوباء، وقد وسوس لي بعضُهم أنّ الأمر لا يعدو أكثر من كونه مؤامرة من الأنظمة الحاكمة ضدّ شعوبها، وتشكّكت في الجائحة، ربّما تشكّك كثيرون غيري، إلى أن بدأت أنباء الموت تترامى إليّ، جار، شخص أعرفه، ثمّ أحد أقاربي، كلّ هؤلاء ماتوا في مستشفيات العزل، وبدأ الخوف من المجهول يستولي عليّ، والتزمت بيتي بكلّ ما يمكن أن يفرضه الالتزام من مسؤوليات ووقاية، انقطعت وأولادي عن العالم الخارجي، انحصر اتّصالي بهذا العالم في شراء بعض المستلزمات، ثمّ سرعان ما أعاود العزلة الإجبارية، ومرّ شهر واثنان وثلاثة، وفي صباح أحد الأيام استيقظت فزعًا من نومي، استيقظت على ضيق في التنفّس واختناق، حلقي جفّ، والسّعال لا يكاد ينقطع، حرارتي مرتفعة، التفّ حولي أولادي، وارتابوا، إنّها كلّ الأعراض التي يُمكن أن تصاحب مرض "كوفيد".

تواصلت مع صديق من الأطبّاء، شرحت له الوضع كاملًا، بينما كان يفترض أن أتّجه إلى أقرب مركز للتحاليل، لكن صديقي الطّبيب حذّرني من النزول، لا أعرف طبيعة المخاوف التي تدفعه لتحذيري، وأوصاني بجرعات من الفيتامينات، أدوية بعينها، مع مراعاة جميع التعليمات الطبيّة لمن هم في مثل وضعي الصحّي، غرغرة مستمرة، شرب ليمون وسوائل دافئة، شرب المياه باستمرار، عسل أبيض، تعقيم لكل مكان تلمسه أصابعي، كحول وكلور، وهكذا تركت منزلي، وقضيت أسبوعين في العزل الخاص في بيت أبي الذي يخلو من الأطفال، ملتزمًا، متوخيًا أقصى درجات الأمان لي ولإخوتي، لا يدخل عليّ أحد ولا أخرج خارج الغرفة، وكان الأهم هو الثبات وعدم القلق، الإيهام خطر على المصاب، وبقدر خوفك على نفسك لا بدّ أن تخاف على الآخرين، إنما أصعب ما في الأمر، أني قضيتهما، هذين الأسبوعين، وحيدًا، لم أر أولادي خلالهما.

كان الأمر شديد القسوة، أنت في غرفة مغلقة عليك، كلّ علاقتك بالعالم نافذة تفتحها في النّهار لكي تستدفئ بأشعة الشّمس، وتراقب السّائرين في حسد، كان هذا من ضمن التعليمات الطبيّة؛ التعرّض لأشعة الشّمس مدّة لا تقلّ عن ساعة يوميًا، وكان وقتي يضيع في القراءة والتأمّل، استرجاع كلّ المواقف القديمة، ومحاسبة النفس، الميزان أقيم تلقائيًا، ووبخّت نفسي على أفعال، ولُمت نفسي على أفعال، وسامحت من أخطأ في حقي، وبين هذا وذاك كان أولادي لا يفارقون خيالي، أطمئن عليهم تلفونيًا، مرّات ومرّات يوميًا، لكن صوتهم يدفعني للمقاومة، يدفعني للتعجّل في التعافي، أنا في حاجة إليهم أكبر كثيرًا من حاجتهم لي.

علّمني العزل أمورًا كثيرة، أولّها الرّضا، التفكّر، التأمّل، التساؤل، سألت نفسي ألف سؤال، وحاسبتها، وراجعت دفاتري، وعلاقاتي، وجدتني أبعد ما أكون عن أصدقائي، أحبهم، لكنّي بعيد بمسافات، وتذكّرت لهم أفضالهم، ولعلّ هذا من محاسن الخلوة؛ التدبّر، ومراجعة النفس، وتقويم ما انحرف، واطمأننت إلى محبة أصدقائي لي، لم يتركوني لعزلتي، هاتفوني، تسامروا معي، أضحكوني، وكانت للنّميمة المحمودة مساحة لا بأس بها فيما نتحدّث.

في العزلة رأيت الأموات، أبي وأمي، وكل من فقدت، خرجوا لي يحاسبونني على أخطائي التي اقترفتها في حق هذا العالم، ويعنّفونني على الفرص التي أهدرتها، فرص للمحبّة قبل أي شيء، فرص لإقامة علاقات جديدة مع الحياة، لكنّي تلوت على مسامعهم أحدث قصصي التي كتبت، وناقشوني فيها، كانت لهم بعض الملاحظات الوجيهة، والتي لا تخلو من تشجيع صادق، أحدث قصصي التي لم أكن أعرف هل يُمكن أن تمنحني الحياة وقتًا لنشرها أم ستدخل إلى درج الفقد دون طلوع؟! 

كانت القصة عن مريض بوباء قاتل، أهلك كثيرين حوله، ولم يُهلكه، إنها الفرصة التي ينبغي أن يستثمرها من تعافى بعد علّته».     
     
عمرو العادلي: ولادة جديدة
«الموضوع أقرب إلى العودة للحياة، من جهاز تنفسي يكاد يتلاشى فيه النفس، إلى تدفق من خلال أنبوب الأكسجين أو من خلال الشمس أو نسمة الهواء الطبيعية، ليس هذا فيروساً رحيماً، أبدًا، بل جاء ليجعل المصاب به يحتضر، موقف صعب لم يحدث لي من قبل، بدأ بحالة عادية تشبه دور البرد، سخونية ودوار وسعال بسيط، سرعان ما تطور بسرعة مذهلة إلى تكسير عظام كأن حرباً بدأت في الداخل، في اليوم الثالث، وقبل إجراء التحاليل تأكدت من أنه هو ولا شيء غيره، كورونا.

بدأتُ العزل المنزلي، وبدأتْ موجة من الألم في أنحاء جسدي وعدم الإحساس بالوقت، فكرت أن أجعل زوجتي تنزع الساعة عن الحائط وتلقي بها بعيدًا، فقد كنت أشعر بكل دقيقة تمر كأنها ساعة، والساعة كأنها يوم، هوَّن عليَّ أخي وزوجتي وأبنائي وابنتي، لكن لا جديد، المرض يطحنني بين رحاه في منتهى القسوة، وخرجت من الأزمة منتصرًا رغم أنني لم أقصد ذلك، فجهازي المناعي ليس على أفضل حال، لكن ذلك بفضل جيش دفاعي قوي مكون من البشر المحيطين بي، أخي وأسرتي وأصدقائي الأطباء، وهم الذين أعطوا قبلة الحياة لجهازي المناعي، أما لو كنت اعتمدت عليه المناعة وحدها، فمن المؤكد أن الخذلان سيكون من نصيبي لا محالة. 

بعد الخروج من الأزمة شعرت بإحساس غريب، أن كل ما كنت أفعله من الأمور العادية، أدركت أنه نعمة كبيرة، أن أسحب الشهيق بلا ألم، وأطرد الزفير بارتياح، أن أشعر بطعم الأكل والعصائر، وقد كانت مجرد "أشياء" في الأيام الأولى للتعافي وجدت نفسي تواقًا بشدة للقراءة، كنت ألتهم كتابًا كل يوم تقريبًا، كشخص يأكل آخر زاده، تغيرت نظرتي للمحيطين بي، وللأشياء أيضًا، فالكل من حولي سخَّر نفسه لدحر ذلك الفيروس القاتل، وعندما أفقت رأيتهم يبتسمون في وجهي، ابتسامة تعني "حمد الله على السلامة" اتسعت غرفتي واتخذت الدنيا مكانة أكبر، وبدأت أشعر وكأنني قد ولدت من جديد على مستويات عديدة، بدأت في ترتيب أولوياتي بطريقة جديدة، سواء على المستوى العملي أو على مستوى مشروعي الأدبي، بدأت في الإجازة التي قاربت على الشهر في خطط جديدة، أتصور أنها بسبب التعافي ومعرفة قدر الحياة التي لم أكن أراها، وبدأت أشعر وكأن القراءة ضمن بروتوكول العلاج، لكنني تذكرت أن وزارة الصحة لم تُدرج الكتب ضمن جدول البروتوكول بعد.

القدرة على تدبيج وصية أثناء المرض، تحولت إلى تركيز شديد بعد التعافي، وأدركت أن العمر قصير، فيمكن لأي منجل عابر أن يحصد السنبلة التي هي أنا، يحصدها من دون استئذان، ورغم إدراك ذلك متأخرًا، فإنني سعيد جدًا بإدراكه قبل أن يفوت الأوان أكثر فأكثر، وفي جميع الأحوال، كانت التجربة تستحق التوقف وتغيير الاستراتيجية بالكامل، التأمل خلال المرض كان أقرب للتعرف على نفسي بعدسة مكبرة، وكأني لم أكن أرى هذه النفس من قبل.

في اليوم الواحد كنت أستجير من كثرة العلاج، ثلاثة أنواع من الشراب، وعشرين برشامة متنوعة، وجهاز أكسجين وآخر لتوسيع الشعب الهوائية، سارت حياتي متخللة فترات العلاج، وبفضل لله أخيرًا تخلصت من كل هذا، ولكن بقي سؤال مثل الثفل في قعر كوب الشاي، هل بإمكان الإنسان التعلم وهو ينعم في صحة موفورة؟ الإجابة حسب تصوري لا، فكل ما يمكن أن يصيب الإنسان بسوء يمكن أن يزيد من عزيمته وحبه للحياة، وكل ما يمكن أن يخيف على أنه شر، ربما، أقول ربما، يكون فيه الخير ونحن لا نعلم».
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024