تبريد ثورة السيسي الدينية

ناصر كامل

الجمعة 2020/10/30
كشف احتفال مصر بالمولد النبوي، المدى الواسع والعميق لتأثير تداعيات الوقائع التي أعقبت خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حيث عرض خطته المقترحة لمعالجة ما سمّاه "أزمة الإسلام العميقة"، فقد بدا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي؛ في كلمته، وكأنه يتراجع عن مطالبته بثورة دينية. كما أظهر الاحتفال تنامي الخلاف بين المؤسسات الرسمية المصرية حول كيفية التعاطي مع المعضلة التي أطلقها ماكرون، وعودة أزمة الرسوم الكاريكاتورية الى الواجهة، وهو مؤشر إضافي على استمرار، وربما تصاعد، الصراع المكتوم بين تلك المؤسسات، على "استراتيجيات" معالجة الملف الديني في مختلف أوجهه.

 

الاحتفال، الذي أقيم الأربعاء الماضي، أظهر ثلاث معالجات متباينة: وزارة الأوقاف، وعبر خطبة الجمعة الموحدة، تجاهلت الأمر تماماً، فلا ذِكرَ له، ولا حتى بالتلميح. طوال أربعة أسابيع بدت منابر المساجد المصرية وكأنها غير معنية بالموضوع، وحتى في إطار الاحتفال بمولد الرسول (الجمعتان: 23 و30 أكتوبر) خلت الخطبة من أي إشارة للأمر الذي تُظهر مختلف وسائل الإعلام والإتصال انشغال المسلمين به في مختلف بقاع الأرض. من يقرأ نصي الخطبتين، وهما متاحان في الموقع الالكتروني للوزارة، لا بد له أن يستنتج أن من كتبهما يريد أن يعزل ملايين المصلين من المصريين عما يجري في العالم. الكلمات بلا زمن، أي أنها لا تمت للحظة الحالية بأية صلة، وهي إذ توضع بإزاء كلمات السيسي، وكلمات شيخ الأزهر، أحمد الطيب، في الاحتفال، تشكل معهما ثلاث جبهات، تبدو متعارضة.

الشيخ أحمد الطيب، لم يذكر ماكرون، ولا خطابه، بالاسم، وإن كان قد ألمح إلى أن السياق العام للمعضلة الفرنسية منشغل بمجرد صراع انتخابي- سياسي، وذهب جل حديثه إلى التصدي لمسألة الرسوم، فدعا "المجتمع الدولي لإقرار تشريع عالمي يجرم معاداة المسلمين والتفرقة بينهم وبين غيرهم في الحقوق والواجبات". وبلغ الطيب، المدى الأقصى في استنكار الإصرار على نشر الرسوم الكاريكاتورية، حتى عده "عداء صريح للإسلام"، مستبطناً؛ عبر ذكره لعدد من الآيات القرآنية، حث كل فرد مسلم على واجب مواجهة "العدوان"، ومستبطناً، بالأساس، فداحة تقاعس المسلم عن الدفاع عن نبيّه، وإن دعا إلى العفو والصفح.

أما رسالته "السرية"، فكانت في الختام بقوله: "وإني لأستبشر كل الاستبشار حينما أتذكر الآية الكريمة المعجزة التي تكفل فيها الله وحده بالدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم، في قوله تعالى "إنا كفيناك المستهزئين"، ذلك أن أي مهتم بتفسير القرآن لا بد له أن يدرك "استراتيجية" الطيب في المعضلة الفرنسية: فالإسلام معتدى عليه، وعلى كل مسلم واجب الدفاع عن نبيه بطرق "سلمية" مشروعة، وعلى العالم لتجنب انفلات البعض في ردود أفعال غير سلمية تحصين الإسلام (خاصة) من أي استهزاء، وأخيراً يستدعي عمق المخيال الإسلامي في تفسير الآية "إنا كفيناك المستهزئين"، حيث يذكر ابن كثير في تفسيره أن عظماء المستهزئين بالنبي؛ في بداية بعثته في مكة، كان عددهم خمسة أشخاص من"ذوي أسنان (من كبار السن) وشرف في قومهم"، وأن جبريل أتى الرسول وهو يطوف بالبيت (الكعبة)، ووقفا معا حيث مر بهما الخمسة، وأن جبريل رمى في وجهه الأول بورقة خضراء، فعمي، وأشار إلى بطن الثاني"فاستسقى بطنه، فمات منه حبنا"، أما الثالث فكان هناك أثر جرح بأسفل كعب رجله فأشار جبريل إلى ذلك الجرح فقتل في الحال، والرابع قتل نتيجة دخول شوكة في أخمص رجله بعد أن أشار جبريل له، كما أشار إلى رأس الخامس "فامتخط قيحا، فقتله".

تبيان موقف السيسي، والتحول "الهائل" في خطابه، يستوجب استدعاء بعض الوقائع: فى نهاية العام 2014، وقبل أن يُكمل ستة أشهر فى الحكم، أطلق السيسى دعوته لـ"ثورة دينية" فى الاحتفال بالمولد النبوي، وبدت دعوته تلك صادمة، فالحضور، وقتها، ظهرت عليهم بوضوح علامات الذهول من الكلمات التي ينطق بها، والأحكام التي يصدرها، فهو بدأ بالحكم على "عوام الناس" بانعدام الصدق والإمانة والإخلاص، ثم وصم المصريين جميعاً بأنهم يعانون من الانفلات السلوكي والأخلاقي والفوضى، وأرجع كل ذلك إلى مشكلة في "الخطاب الديني"، وإذ نفى أن يكون حديثه متعلقاً بالعقيدة، أسرف في وصف المسلمين و"الفكر الديني" بأوصاف شائنة، متهماً المسلمين بأنهم يقدسون، منذ مئات السنين، نصوصاً وأفكاراً "تدفع- الآن- الأمة (الإسلامية) بالكامل لأن تكون مصدراً للقلق والخطر والقتل والتدمير في الدنيا كلها"، وتساءل: "هل يريد المسلمون تدمير العالم؟"، ثم أطلق دعوته: "نحن نحتاج ثورة دينية"، لأن "الأمة تتمزق، الأمة تدمر نفسها بنفسها".

وفي احتفال العام التالي، خطا السيسي خطوة أبعد في تشخيصه لأحوال "الأمة"، وتساءل كمن يذهب إلى الإجابة بنعم: "يعني 1.6 مليار(مسلم) هيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها 7 مليار عشان يعيشوا هما".

ثم عاود الإلحاح على تلك الدعوة مرات في مناسبات مختلفة، وفي إحداها (أبريل/ نيسان 2017) أظهر جانباً شخصياً مفارقاً للغاية، فقد كشف إنه "ظل يؤدي الصلوات الخمس فى المسجد لمدة تزيد عن 30 عاماً من دون أن يسمح لأحد من أبنائه بمشاركته أو دخول المسجد... وأن هذا ليس تقليلاً منهم ولكن خوفاً عليهم، لأنه لا يعلم بطبيعة الأفكار الموجودة في المسجد"، ومهما حاول المرء التفكير في مثل هذه الكلمات فلن يستطيع نفي أن صاحبها يتملكه شعور عميق بـ "رهاب المساجد" والهلع من الأفكار الموجودة فيها.

وكان آخر ما أنجزه، السيسي، من تقييم لحال "الأمة"، وصم المسلمين بأنهم "متخلفون سبعة أو ثمانية قرون عن العالم"، ثم حمّل شيخ الأزهر المسؤولية عن "تجديد الخطاب الديني".

طوال السنوات الست يبدو أن السيسي لم يتلق من الأزهر ما يرضيه، فليس هناك أية إرهاصات لثورة دينية، رغم معاودته الدعوة والمطالبة والإحراج؛ الذي بدا في بعض الأحيان سمجاً، ومرت العلاقة بينهما باختبارات عديدة، اجتازها الأزهر بنجاح. فقد رفض طلب السيسي في ما يتعلق بإقرار الطلاق الشفوي، ورفض مشروع قانون بنزع تبعية دار الإفتاء منه، ووضعها تحت إشراف السلطة التنفيذية، كما فشلت محاولة طرح تعديل لقانون الأزهر، الذي ما زال يحتفظ، بمفرده، بنوع من الاستقلال من بين كل المؤسسات المصرية؛ عدا القوات المسلحة بالطبع.

استدعاء كلمات السيسي تجعل كلمات ماكرون التي قالها يوم 2 أكتوبر تبدو رحيمة بالمسلمين، فالرئيس الفرنسي لم يتجرأ، ولا يمكن لمثله أن يتجرأ، على نطق بعض الكلمات التي تلفظ بها السيسي طوال السنوات الست، والتي يبدو أن الجميع قد اتفق على عدم أخذها على محمل الجد.

ظهر نكوص السيسي عن الثورة الدينية "المرتجاة"، في الاحتفال (الأربعاء الماضي) جلياً، كما أظهر تناقضاً منطقياً. فقد بدأ بالتهوين، بصورة فجة، من وقع وأثر كلمات ماكرون، ومن عودة مسألة الرسوم لتصبح موضع جدل ونزاع، ووصف ما يجري بأنه "لغط كتير"، وختم بالقول النقيض لذلك: "الأمر يتطلب من الجميع التوقف والتدبر في الأمور جميعها"، وبين الموقفين تراجعت كل مقولات "الثورة الدينية"، فـ"التطرف لا يمكن قصره على دين بعينه، ففي جميع الديانات؛ وبكل أسف، يوجد متطرفون"، ولا يمكن أن "يحّمل المسلمين أوزار ومفاسد فئة قليلة". ولم يعد مطروحاً التساؤل: "يعني 1.6 مليار(مسلم) هيقتلوا الدنيا كلها اللي فيها 7 مليار عشان يعيشوا هما"، فقد نزل السيسي بالخطر إلى حدود 1%. وطبعاً لم يرد في خطاب السيسي، ذِكرٌ لماكرون، ولا لفرنسا، ولا للمدرّس القتيل، ولا لقاتله، ولا للرسوم. فالسيسي مغرم بالإخفاء، وبالتعبيرات الغامضة، التي لا تفيد أي معنى دال.

النظرة المجملة للجبهات الثلاث تبين أن المعالجات الرسمية المصرية لمعضلة ماكرون والرسوم تتفق جميعاً على "تبريد" الموقف، ابتعادا عن مواقف أطراف "إسلامية" رسمية وشعبية: تركيا، باكستان، الكويت (مثلا)، وتميزا عن مواقف "دولية" أخرى. كما تبين كيف استخدم كل طرف تلك المعضلة لتعزيز مكانته.

"التبريد" في وزارة الأوقاف مطلق، تجميد تحت الصفر، عزل تام، وتلويح بنص القانون. فلو أن إمام مسجد خالف نص خطبة الجمعة، وتطرق إلى الأمر فسيعاقب بنص المادة (201) من قانون العقوبات المصري، حيث أن "كل شخص ولو كان من رجال الدين أثناء تأدية وظيفته ألقى في أحد أماكن العبادة أو في محفل ديني مقالة تضمنت قدحاً أو ذماً في الحكومة أو في قانون أو في مرسوم أو قرار جمهوري أو في عمل من أعمال جهات الإدارة العمومية، أو أذاع أو نشر بصفة نصائح أو تعليمات دينية رسالة مشتملة على شيء من ذلك يعاقب بالحبس وبغرامة لا تقل عن خمسة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين. فإذا استعملت القوة أو العنف أو التهديد تكون العقوبة السجن". هذا النص يوضح كيف يفهم السيسي القانون حين يقول: "لا أظنني مخطئاً عندما أرى أن الاستعلاء بممارسة قيم الحرية، ضرب من ضروب التطرف عندما تمس هذه الممارسة حقوق الآخرين".

أما "تبريد" الأزهر، وشيخه، فيتوجه بالأساس إلى السيسي، فالمشهد الملتبس يوحي أن الإسلام في موقف الدفاع، وهو الذي يتعرض للعدوان، وأية دعوى للمراجعة والتجديد الآن غير مناسبة. وربما تبدو التلميحات مخفية جيداً، لكن لا يصعب تأويل بعض إشارات الطيب إلى أن الأطروحات التي أعلنها السيسي طوال السنوات الست تشجع مثل هذا العدوان.
وأخيراً، وصل "التبريد" مع السيسي إلى ثورته الدينية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024