حكم المصرف: بعد تطفيل الزبون، ترشيده

روجيه عوطة

الأربعاء 2020/07/29
كتبت إحدى السيدات على فايسبوك منشوراً، اخبرت فيه انها طلبت من البنك تحويل مبلغ من المال إلى ابنتها التي تدرس خارج لبنان. لكنه، رفض ذلك، قائلا لها ان ابنتها مجازة جامعيا، ففي وسعها ان تعمل، وتجني المال اللازم لعيشها.

تندرج حكاية السيدة في سياق أفعال السطو والاذلال التي تواظب المصارف عليها بحق زبائنها بالطبع. الا ان ثمة في هذه الحكاية ما يستدعي التوقف عنده، وهو تسويغ البنك لذاته ان يقرر مصير الابنة تحت حجة أنها قادرة على العمل، اي بأمر يوجهه إليها بواسطة والدتها: "فلتمضي إلى العمل بدلاً من انتظار المال من أهلك". فعلياً، بأمره، يبدو البنك أنه يريد ترشيد الابنة، اي تحويلها إلى راشدة، تعتمد على نفسها، وتكسب قوتها بتعريق جبينها. وبهذا، يستوي البنك على صفة قريبة من صفة المؤدب التي أطلقتها عليه الفنانة جيسيكا خزريك ذات مرة، أو بالأحرى ذات حجز لها، مشيرة إلى علاقة البطريركية بالرأسمالية في رجائه: صفة المربي. فالبنك يبغي تربية الابنة، وبغيته هذه تفيد بأنه يرمي إلى دفعها من الاتكال على أهلها إلى تولي مسؤولية عيشها من دونهم.

ولكن، ارادة البنك، وإن كانت، وفي لحظة ما، تسوّيه على صفة المربى، أو المرشد تحديداً، ولكنها، لا تفعل ذلك سوى استكمال لكونه، وفي علاقته مع الزبائن، لا يتوانى عن تطفيلهم، عن تحويلهم إلى اطفال. ففي ظنه، الزبون المثالي هو الزبون-الطفل. وما الطفل هنا سوى المختزل بكونه عنواناً للتعلق بمن يحقق مروحة نزوعاته التي يلح عليها من دون أي ادراك لكون تحقيقها يرتبط بظروف معينة، ومن دون أي وعي لهذه الظروف.

فلا يتوقف الزبون-الطفل عن تشغيل البنك، الذي يصنعه بالتقدم منه على أساس دعاية بعينها، وهي انه قريب من كونه ذلك الطرف، الذي، وحين يبغي شيئاً ما، من الممكن له أن يطلبه منه، فيحققه له. فعندما يقرر ذلك الزبون شراء سيارة، سرعان ما يجد في الدعاية قرضها، الذي يتيح له الاستحصال عليها من دون أن ينتظر طويلاً لتجميع ثمنها. البنك يوفر له المبلغ مباشرة، ومعه، يوفر له شعوراً بكون كل شيء متاح له. البنك، في هذا السياق، يتقدم منه كأنه يأخذه على عاتقه، أو كأنه ولي أمره، الذي يحكمه بتحقيق بغياته فوراً، ولكن، من دون أن يجعله يعي الحكم الذي هو فيه. في الواقع، هو يفعل ذلك لكي لا يدرك الزبون في اي جحيم يعيش، اي جحيم الدين على الاقل، وبهذا، يرسخ تطفيله. كما لو أن البنك لا يريد اخباره عن واقع عيشه خوفاً من ثقل ذلك عليه، كي لا يرمي عليه هموم لا قدرة له على حملها.

فعمل البنك، أو اشتغال نظامه، يستند إلى خوفه على الزبون، إلى كونه لا يخبره عن عيشه، بل يبث فيه الطمأنينة. "الليرة بخير" كان يردد رياض سلامة، وربما لا يزال. بالطبع، لا داعي للقول ان خوف البنك هذا يعادل انه لا يريد للزبون ادراك جحيمه كي يديمه كزبون، فهو، وكلما خاف عليه، يجعله زبونه اكثر فأكثر.

في هذه الجهة، قد يصح التوقف عند أمر البنك حيال الابنة إياها باعتباره مواصلة لنفس صلته مع الزبائن، اي مواصلة لتطفيل الزبائن وفي الوقت نفسه إيصال هذا التطفيل إلى أوجه، إلى الترشيد. بعبارة أخرى، البنك نقل صلته بالزبائن، وهمها، من مرحلة التطفيل، من مرحلة "تعالوا يا اطفال"، إلى مرحلة الترشيد، "اتكلوا على أنفسكم".

على هذا النحو، قرر البنك، وفي إثر سرقته الزبائن، أن يتغير من ولي الأمر إلى المربي، إلى المرشد، الذي ما عاد يحقق لهم كل ما يبغونه فوراً، بل يدفعهم، وبوضعه إيديه على أموالهم، إلى أن يصيروا راشدين، إلى ان يقلعوا عن الاعتماد عليه، طالباً منهم أن يتفهموا ذلك. فقد أمر البنك بالرشد، وما على الزبائن سوى أن يطيعوه، ومن لحظة إلى ثانية، يتذكرونه كيف كانوا أطفاله، وكم أعطاهم من الحب فيضه، وبالتالي، عليهم أن يردوا له الجميل! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024