"كفاحي" لكناوسغارد.. التلصص كوجبة فريدة!

أسامة فاروق

الأربعاء 2020/04/22
إن كانت للعزلة الحالية حسنات، فسيكون على رأسها بالتأكيد إتاحة الفرصة للقراءة. ليس مجرد القراءة المعتادة، لكن قراءة المشاريع الكبيرة التي كانت مؤجلة. ليس سهلاً بالتأكيد البدء في قراءة كتاب أكبر من 500 صفحة، وإذا كانت لهذا الكتاب أجزاء أخرى فإنها تدخل على الفور دائرة التأجيل، انتظاراً لساعات الفراغ التي ربما لم تكن لتأتي أبداً. الآن نستخدم مخزوننا كلّه من الوقت، ولا بأس والأمر كذلك من المغامرة مع كتب الحجم الكبير.

رواية "كفاحي"(*) للكاتب النروجي كارل أوفه كناوسغارد، بالتأكيد كانت ضمن المشاريع المؤجلة، يكفي أن تعرف أنها سداسية- صدر الجزء الأول العام 2009 والجزء السادس العام 2011، وتتجاوز في مجملها 3500 صفحة- وأن المتاح بالعربية منها حتى الآن جزأين فقط لكنهما في 1200 صفحة تقريباً! قراءة هذا المشروع كانت بالتأكيد تحتاج لعزلة، لسجن، كعمل بروست العظيم "البحث عن الزمن المفقود"، وهي بالمناسبة مقارنة لم تكن على مستوى الحجم فقط، لكن على مستوى الأسلوب أيضاً.. كانت تنتظر سجن الكورونا.  

"كفاحي" ليست رواية تقليدية لأن الجميع بات يعرف الآن أنها سيرة حياة كاتبها، لذا فأغلب المراجعات التي تناولت كتاب كناوسغارد انجذبت للأجزاء الصاخبة فيه، للفضيحة التي أثارها، بدءاً من عنوان كتابه المشابه لسيرة هتلر، وحتى أدق أسرار حياته؛ عائلته وأصدقاؤه الذين وضعهم جميعاً تحت الشمس، ما لم يكن في المجمل محل ترحيب منهم، وربما خسرهم جميعاً لكننا ربحنا في المقابل عملاً كبيراً.

لا يمكن بأي حال التعرض لتلك السيرة كاملة. ستكون محاولة مخلّة بكل تأكيد، إذا تحدثنا مثلاً عن علاقته بوالده القاسي الذي خسره بسبب الكحول، ربما نغفل علاقته المرتبكة مع زوجته الأولى، وصراعه الدائم مع الثانية، وحيرته بين أبوّته وإخلاصه للكتابة.. إلخ. كما أن ما نقوله في سطر واحد هنا، تطلب من كاتبه أكثر من ألف صفحة وأكثر من 35 عاماً من الحياة الحقيقية. لذا ربما يكون من الأفضل أن نبحث عن إجابة للسؤال الأكثر إلحاحاً: لماذا فعل ذلك؟ وكيف؟ والإجابة لحسن الحظ موجودة داخل العمل نفسه، وتكشف بطبيعة الحال نظرة كاتبه للأدب والكتابة. فمن بين مئات الصفحات التي يستعرض فيها كناوسغارد حياته بأدق تفاصيلها، إلى حد الملل أحياناً، -20 صفحة مثلاً لوصف نزهة عائلية، و30 للقاء مجموعة أصدقاء- من بين آلاف أكواب القهوة التي شربها، وعشرات الأكلات التي حضّرها، ومئات الكيلومترات التي قطعها متأملاً، نستطيع أن نشاهد كيف تكون حياة كاتب حقيقي، مهموم ومشغول بالكتابة، وباستكشاف نفسه. كيف بحث عن الفرادة منذ أن فكر في الكتابة، وكيف قادته الكتابة لإعادة استكشاف نفسه والعالم من حوله، وكيف تحول منذ البداية المتشككة اليائسة إلى ذلك الانتشار الواسع والمذهل والكبير.. "عندما يهمل الكاتب البحث عن شيء مختلف فإنه لا يستحق شيئاً غير الازدراء"، قال ذلك بشكل واضح من البداية، وأكده بأكثر من شكل على امتداد حياته وعمله الكبير. 

كحول
لا يلتزم كناوسغارد بنسق زمني في حكايته، يتعمد ذلك في حقيقة الأمر، ليس على مستوى الزمن فقط لكن على مستوى الأسلوب أيضاً. يبدأ مثلاً بحديث عام عن الموت، ثم عن أحداث يومية مع أشخاص لم يقدمهم لك كقارئ مفترض، ثم تجد نفسك أمام جثة والده الغارقة في الكحول والفوضى التي تقودكما معاً إلى استعادة تاريخ الطفولة كله. عليك قبول هذه اللعبة حتى تنسجم مع العمل، إذا استطعت إنهاء المجلد الأول-460 صفحة- هنا فقط تبدأ المتعة! هكذا ستكون قد تعرفت على المجموعة كاملة، كاجتماع عائلي تعرف جميع الحاضرين فيه، ليس مجرد أسماء فقط بل كبشر حقيقيين، ولن تصبح القراءة صعبة أبداً، حتى مع استمرار عدم الالتزام بالنسق الزمنى، بل على العكس ستصبح مدمناً على الرواية كما يقول ناشرها ومعظم من قرأوها، ستندمج في حياة كناوسغارد المليئة بالتفاصيل اليومية العادية والتي قد تكون تافهة، لكنك لن تمل من طلب المزيد، من الأيام الحلوة والصعبة، من لحظات الانطلاق ومن العثرات، من لحظات الإبداع والإلهام، من التفاصيل التي قد تبدو تافهة، تتشكل حياة حقيقية ويخرج بشر حقيقيون من لحم ودم، لتعطي مستوى آخر من متعة القراءة. 

الأهم هو أن كناوسغارد يضعك داخل معمل الكتابة ذاته، ستعرف عندما يتعثر، وسيدهشك عندما ينطلق: "كنت في حالة هوس تام. وكنت أكتب طيلة الوقت. أنام في اليوم ساعتين أو ثلاث ساعات. وما عاد هنالك معنى لأي شيء غير الرواية التي أكتبها. ذهبت ليندا إلى أمها وكانت تتصل بي مرات عديدة في اليوم الواحد. كانت في غاية الغضب، وكانت تصرخ في الهاتف، تصرخ حقاً، وتصرخ. لكني أبعد سماعة الهاتف عن أذني وأواصل الكتابة. قالت إنها ستتركني. فقلت لها اذهبي؛ لست أبالي. إن عليّ أن أكتب! كان هذا صحيحاً". لا يصدق نفسه بعد ذلك، رفيقته وأمّ ابنته تهدده بأنها ستذهب ولن يراها مجدداً، وقال لها ببساطة "لا بأس"! كان يكتب عشرين صفحة في اليوم، لكنه لم يرَ في ما ينجزه شيئاً عظيماً، ولا في ما ينتجه الآخرون أيضاً، بل على العكس كان يمقت دائماً الادعاء الكاذب بالتميز والأفضلية، فمن بين آلاف الكتب التي تصدر سنوياً، عمل واحد أو اثنان هما الأحق بالتقدير في وجهة نظره "لا شيء يستدعى هذا الصياح كله. والجميع يعرف هذا. المشكلة هي ما يحيط بهذه السير الأدبية كلها، والمديح الذي يعيش عليه الكتّاب متواضعو الشأن نتيجة صورتهم الزائفة عن أنفسهم ونتيجة كل ما يجري تشجيعهم على قوله في الصحف والتلفزيون".

إنني عاهرة
ولأنه يمقت هذا الزيف كله كانت نصيحته الدائمة لنفسه وللآخرين بطبيعة الحال "أطبق فمك، واخفض رأسك، واعمل، واعرف دائماً أنك لست أكثر من كومة خراء". لكنه رغم ذلك كان ولايزال مضطراً للانغماس في هذا الزيف والادعاء، وهو ما يعذبه، نراقب على امتداد الصفحات كيف تأكله الكتابة أكلاً، كيف تصبح الحياة الحقيقية عبئاً، وكيف تصبح الكتابة هي الحياة الحقيقية المأمولة، وكيف تتركز مصادر الإلهاء لتبعده، وكيف يتحصن أمامها ومتى يفقد دفاعاته كلها، كيف يتشكك في ما أنجزه، وكيف يضع نفسه وحياته كلها على الورق، ثم كيف يجرى مبتعداً عن كل فرصة للمديح والإطراء والخوض في ما تفرضه تبعات الكتابة والنشر من مقابلات وتكرارات تجبره على التصنع وإعطاء المُحاور ما يريد أن يسمع، لا ما يريد هو قوله في حقيقة الأمر، فكل ما يريد هو الكتابة ذاتها، لا يريد ما هو خارجها.. "عليّ أن أقطع كل صلة بعالم الثقافة المداهن الفاسد كلياً حيث يكون كل مبتدئ صغير مطروحاً للبيع، وأن أقطع كل صلة بعالم التلفزيون والصحافة الفارغ، وأن أجلس في غرفة وأقرأ بكل جد، أقرأ الأدب الحقيقي رفيع الجودة، لا الأدب المعاصر؛ وبعد ذلك أكتب كما لو أن حياتي متوقفة على تلك الكتابة". لكنه يفشل في تحقيق أمنيته، تمنعه الحياة الحقيقية من الحياة التي يتمناها "إن لي أسرة، ومن حقها عليّ أن أكون هنا. ولديّ أصدقاء. لدي أيضاً ضعف في شخصيتي يجعلني أقول نعم نعم نعم عندما أريد أن أقول لا لا لا... أخاف كثيراً أن أجرح الآخرين، وأخاف المواجهة والنزاع كثيراً، وأخاف كثيراً ألا أكون محبوباً.. أخاف إلى حد يجعلني أتغاضى عن المبادئ كلها، وعن الأحلام كلها، وعن الفرص كلها، وعن كل ما له طعم الحقيقة". وأمام هذا كله وأمام اضطراره إلى مواصلة ما يكره، يواصل قسوته على نفسه "إنني عاهرة! هذا هو التعبير المناسب الوحيد". 

عندما نقرأ مشاهد كتلك، تتجاوز المسألة حدود التلصص، ربما يصل الأمر أحياناً إلى حد التوحد مع شخص صادق إلى هذا الحد، خصوصاً وأنت تحمل بين يديك نتيجة النزف الذي نزفه، تقبله ليس فقط لأنه حميمي، لكن لأنه حقيقي أيضاً وربما لأنه لم يكن مضطراً.

العالم غرق في الخيال
حتى وإن لم تقتنع، حتى إن كانت لك وجهة نظر مخالفة، وترى أن ما قدمه فضيحة وليس أدباً، فستفهم على الأقل لماذا فعل ذلك، ستفهم أنك أمام شخص فقد إيمانه بشكل من أشكال الأدب، ويقول ذلك صراحة من دون مواربة: "فقدت إيماني بالأدب خلال السنوات الماضية؛ فقدته على نحو متزايد". يرى أن العالم غرق تماماً في الخيال، وأن الأمر خرج من أيدينا، وأنه لم يعد هناك شيئاً حقيقياً.. ملايين الكتب والمسلسلات والأفلام، جميعها عن أشخاص مختلقين تحكي عن عالم مختلق، صيغ مكررة تحاصرنا في كل مكان، تراجعت المسافة التي تفصله عن الواقع، وصار العالم كله يقدم نوعاً من "الإنتاج بالجملة". كفَر بهذا الإنتاج كله، ولم تعد للكتابة القصصية والروائية أي قيمة عنده: "الجنس الأدبي الوحيد الذي أرى فيه قيمة، الذي لا يزال يحمل معنى، هو المذكرات واليوميات والمقالات، أي ذلك النوع من الأدب الذي يتعامل مع السرد، ولا يتحدث عن شيء بل هو مؤلف من صوت فقط، من صوت شخصيتك أنت، من حياة، من وجه، من نظرة يمكن أن تقابلها عيناك". لكن ما كان يقتله حقاً هو أن "الفرادة التي يتحدثون عنها ليست موجودة؛ إنها كذبة". لم يكن كناوسغارد يريد أن يقدّم للعالم ما سبق تقديمه، كان يبحث عن وجبة جديدة، حتى لو كان هو نفسه الطبق الرئيسي فيها.

(*) "كفاحي" سُداسية ضخمة للكاتب النروجي، كارل أوفه كناوسغارد، حققت نجاحاً لم يحققه أي كتاب في النروج إذ بيعت منها 450000 نسخة في بلد لا يتجاوز عدد سكانه الخمسة ملايين، وترجمت إلى لغات عديدة، وصدر الجزء الأول والثاني منها عن دار التنوير بترجمة لـ الحارث النبهان.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024