رحيل ميلوش فورمان.. وخلود "آماديوس" و"عش الوقواق" و"هير"

علاء رشيدي

الإثنين 2018/04/16
فقدت السينما المخرج التشيكي الأميركي ميلوش فورمان (1932 – 2018)، أحد المبدعين السينمائيين الذين قدموا أعمالاً دخلت تاريخ السينما وحققت النجاح الجماهيري والنقدي في الوقت ذاته.  


بدأ ميلوش فورمان أعماله السينمائية كواحد من مخرجي الموجة التشيكية الجديدة التي تأثرت بموضوعاتها الفنية وجمالياتها السينمائية بالموجة الفرنسية الجديدة التي برزت سنوات الستينات مع جان لوك غودار، فرانسوا تروفو ولويس مال. فبعد مجموعة من الأفلام الوثائقية، قدم فورمان في العام 1964، فيلماً عن التفاصيل اليومية لحياة شابة تشيكية في محيطها الإجتماعي وسعيها الحصول على وظيفة، مروراً بموضوعات تتطرق لتحليل المجتمع التشيكي في تلك الفترة على خطى الأساليب الفنية وطرق التعبير التي حملتها الموجة الفرنسية الجديدة.


كذلك الأمر مع الفيلم الثاني لفورمان بعنوان "في حب الشقراء" (1965) من حكاية كتبها بنفسه وطور السيناريو السينمائي الخاص بها، والذي تناول العلاقة الثلاثية بين السلطة، ملاك المعامل، وطبقة العمال، مركزاً على الدور الذي تلعبه السلطة السياسية في إدارة البلاد، وإدارة العلاقة بين أصحاب الأملاك وطبقة العمال.

في العام 1975، اختار ميلوش فورمان رواية "أحدهم طار فوق عش الوقواق" للروائي كين كيسي (1935-2001)، والتي تجري أحداثها في مصح للأمراض العصبية والذهنية، ونعيش في الفيلم الشهير، ومن خلال الشخصية الرئيسية التي لعبها الممثل الأميركي جاك نيكلسون، تفاصيل دخولها إلى المصح، وتساؤلاتها المتكررة عن تعريف المرض بين العقل والجنون، وعن علاقات المرضى مع الطاقم الطبي، وعن الحالات الفردية لكل نزيل في المصح، فتحاول الشخصية الرئيسية في الفيلم التدخل وإنقاذ بعض المرضى بشكل شخصي، وذلك من خلال الترويح عنهم وإخراجهم إلى الأنشطة الإجتماعية، فتصمم على تنفيذ رحلة بحرية لفريق المرضى، لكن النهاية تحمل إلى أحداث الفيلم فاجعة انتحار أحد نزلاء المصح الفتيان.

في إحدى أشهر لقطات "أحدهم طار فوق عش الوقواق" نشاهد الممرضة التي تمثل العقل وهي تجلس في منتصف دائرة من النزلاء في المصح، حضورها الرزين وأسلوبها المهني المتعالي يجعلها الممثلة الوحيدة للعقل، بينما تلقي بصفات المرض والجنون على من يحيط بها من نزلاء المصح. إن مشهداً كهذا يعيد إلى الأذهان الجهود التي قدمها الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في محاولاته الإضاءة على الحقل الطبي في مجال الأمراض العصابية والذهنية في مؤلفه "تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكي".
حاز فيلم "أحدهم طارق فوق عش الوقواق" على خمس جوائز أوسكار: أفضل فيلم، أفضل إخراج، أفضل سيناريو، وأفضل ممثل وممثلة في دور رئيسي.
في العام 1979، قدم ميلوش فورمان تجربة مغايرة مع الفيلم الموسيقي "هير"، بالإستعراضات الراقصة يروي حكاية رمزية عن الجيل الأميركي الذي عايش تجربة حروب التدخل الأميركية في مناطق متفرقة من العالم بالرغم من انتشار أفكار الحركات المعادية للعنف والداعية إلى السلام بين أبناء الطبقة الشابة من المجتمع. ترشح الفيلم أيضاً للعديد من الجوائز لكن الأهم هو الصدى الجماهيري الذي حققه في صفوف الحركات المعادية للحروب وللتدخل الأميركي خارج الأراضي الأميركية.

في العام 1981، اختار ميلوش فورمان رواية عن عازف بيانو أميركي من أصول افريقية، واقتبس عنها فيلم "راغ تايم"، وهو وزن وإيقاع موسيقي اشتهر بين العازفين الأميركيين السود من أصل افريقي، في فترة انتشار موسيقى الجاز والبلوز في عدة مدن أميركية كنيويورك وأتلانتيك أوائل القرن العشرين. نتابع فيه النجاح المتتابع والتحول الذي تعيشه الشخصية الرئيسية المتمثلة بعازف بيانو من أصول افريقية يجد العقبات والإشكاليات المتعلقة بالعنصرية والتعامل الدوني مع السود في قلب صراعه لبناء شخصيته واكتساب الإحترام والتقدير كفنان، ويشدد قبلاً على أن ينالها كإنسان. 


الرائعة التالية التي حققها ميلوش فورمان للسينما هو فيلم "آماديوس، 1984" والذي يعود إلى نص للمسرحي بيتر شافر. تجري أحداث فيلم "ماديوس" في مدينة فيينا في أواخر القرن التاسع عشر، وتتناول موضوعة الموسيقى مجدداً. إنه عن الغيرة والدسائس التي أقامها الموسيقي الإيطالي أنطونيو ساليري في وجه صعود المؤلف الموسيقي الشاب موزارت، الذي طغى بموهبته على مؤلفي ومختصي الموسيقى في عصره مما جعله عرضة للمؤامرات التي تمنعه من الوصول إلى حظوة الإمبراطور جوزيف الثاني في تلك الحقبة التاريخية التي كان الفنان بأشد الحاجة للرعاية والحماية من السلطة الثقافية المتمركزة في يد البلاط. حاز فيلم "أماديوس" ثمانية جوائز أوسكار كان أهمها: أفضل فيلم وإخراج وسيناريو، وأفضل ممثل لموراي إبراهام عن أدائه لدور الموسيقار الإيطالي أنطونيو ساليري (1750 - 1825).
في العام 1989، أخرج ميلوش فورمان فيلم "فالموت"، وهو نسخة أخرى للشاشة الفضية من رواية "علاقات خطرة" (1782) من تأليف الفرنسي بيير دو لا كلوس والتي قدمت لها السينما في تواريخ عديدة نسخاً متنوعة. نالت الرواية شهرتها لتناولها موضوعة العلاقات العاطفية والجنسية ولعبة الإغراء والتدمير  في حياة طبقة القصور الباروكية الفرنسية.


في العام 1996، شهدت السينما الأميركية السجال الكبير الذي سببه فيلم فرومان "الجميع ضد لاري فلينت"، وهو يروي السيرة الذاتية لناشر أولى المجلات الإباحية في أميركا. ويركز الفيلم على الصراع الذي قاساه لاري فلنت صاحب المجلة في مواجهة الآراء الدينية والإجتماعية المتزمتة، والمعارك القضائية التي اقتيد إليها بسبب المجلة الفنية الإباحية. وفي فيلم "رجل على القمر" (1999)، يروي فرومان سيرة ذاتية لفنان من نوع آخر. وهو فنان الكوميديا، ومؤدي العروض المسرحية الفكاهية آندي كوفمان، والذي أدى دوره بإقتدار الممثل الكوميدي جيم كاري وحاز عليه جائزة الغولدن غلوب كأفضل ممثل.


"أشباح غويا" (2006)، هو الفيلم التالي من كتابة ميلوش فورمان واخراجه، حمل أيضاً بعضاً من عناصر السيرة الذاتية للفنان الإسباني فرانشيسكو غويا. يبرع سيناريو الفيلم في رسم مصائر الشخصيات في تلك المرحلة من التحول والإنقلابات السياسية التي عاشتها إسبانيا خلال عشر سنوات من أحداث الثورة الفرنسية، ويضيء على حياة فنان تشكيلي طالما شغل المؤرخين والكتاب بإبداعاته الفنية وآراءه السياسية. وأخيراً، حقق ميلوش فورمان في العام 2009 الفيلم الموسيقي الكوميدي ( A Walk Worthwhile)، عن حياة الثنائي الشاب أولي و فانيلا وهما يحاولان الإنفصال بينما تعيقهما طبيعة الحياة التي يتبعان والعديد من الإلتزامات المالية المثقلة عليهما.

إذاً، نحن أمام فقدان السينما لواحد من أبرع صانعي أفلام السر الذاتية والأفلام الموسيقية الذي عرفته السينما الأميركية على الإطلاق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024