النازية بوصفها حلم الإدارة وعِلمها

روجيه عوطة

الإثنين 2020/02/10
يشير المؤرخ جوهان شابوتو في مقدمة كتابه الجديد "أحرار الخضوع، علم الإدارة من النازية إلى اليوم" (2020، غاليمار)، إلى أنه لا يجد في النازية أصل علم الإدارة، إلا أنه يجد فيها فصلاً من فصوله. لكن هذا الفصل ليس الفصل-المحور، بل أنه الفصل-الذروة. بعبارة أخرى: النازية هي بمثابة أوج علم الإدارة، بحيث أنها واظبت على ممارسته، وتطويره، والذهاب في تنفيذه إلى الحد الأقصى. بالتالي، اليوم، ومع طغيانه أينما كان، لا يبدو سوى أنه يحيل إليها، ولا يبدو سوى فصل من فصولها. فكل ما يحلم به علم الإدارة، بخبرائه، بإختصاصييه، بتكنوقراطييه، كانت النازية قد حققته على أكمل وجه، ولهذا بالتحديد، يرمي إليها، لا كماضٍ، إنما كمستقبل.

من هنا، تناول شابوتو حكاية القانوني النازي راينهارد هون، الذي انتقل، في خمسينات القرن المنصرم، من الـ"waffen ss" إلى الـmangement، مؤسساً جامعة الكوادر في مدينة باد هاغزبورغ. فبانتقاله هذا، نقل التجربة النازية إلى علم الإدارة، ليجعله امتداداً له، فقد كان من منظمي العمل في مصانع الرايخ الثالث، ومن بعد العام 1945، نظمه في الشركات، التي خرج الآلاف من مطلقيها ومديريها. وهذا، على أساس بعينه، وهو أن الاقتصاد يساوي فن الحرب، الذي يستلزم، كالحياة على عمومها، المرونة، والتكيف، والدينامية. فأسوة بالقيادات العسكرية، لا بد لمدراء الشركات أن يتحلوا بهذه الصفات، لكي يصير في وسعهم أن يحققوا أهدافهم، وعلى رأسها، زيادة الإنتاجية والربح.

فعلياً، ثمة ما يطيحه شابوتو في حين سرده لحكاية هون، بالتوازي مع ربطه تجربته العسكرية بعلم الإدارة، وهو تلك الصورة حول النازية بوصفها مجرد نظام هرمي، عنيف، يصدر الأمر فيه من الأعلى لكي يجد سبيل تنفيذه في الأسفل. إذ إن هذه الصورة كاريكاتورية، بل إن قوة ذلك النظام في أنه صنع منطق التوجيه فيه بإقران هرميته، وعنفه، بما يناقضهما، أو يخفف منهما، وهذا، حيال مواطنيه، أي الذين يشكلون جماعته العرقية. أما أغيارهم، وفي مقدمتهم اليهود، بالإضافة إلى أصحاب الإحتياجات الخاصة، فمصيرهم ليس سوى الإبادة، التي كان القيمون عليها قد نفذوها بالمنطق اياه الذي كان معتمداً في أي مصنع من المصانع.

قد يصح تلخيص هذا المنطق بعدد من المعايير. أولها، معيار التعاون، بحيث أن العمال وأرباب العمل يشكلون جماعة واحدة، لا فروق بينهم، إنما تكامل. طبعاً، هذا التعاون هو بمثابة سبيل لمنع تسلل الصراع الطبقي، اي هذه الخدعة غير الموجودة بحسب النازيين، إلى أرجاء العمل. على أن هذا التعاون يعني أن العمال ليسوا مقيدين بعلاقة تسلطية مع أرباب العمل، بل إن حرية ما، وهذا هو المعيار الثاني، تتوافر لهم. هذه الحرية ليست، في الواقع، كذلك، بل تقتصر على أن العمال يتلقون من أرباب العمل أوامر، هي كناية عن أهداف، وتُترك لهم حرية اختيارهم لوسائل تحقيقها.

فحريتهم هي حرية الوسائل، التي، وعند تقييم العمل، يتحملون مسؤولية اختيارها. بالتالي، المعيار الرابع، هو تقاسم المسؤولية مع أرباب العمل، لا بل تحمل القسم الأكبر منها، لأنهم كان قد فوضوا بها. المعيار الخامس، ولتحقيق الأهداف، أو تخفيف المسؤولية عند الإخفاق في تحقيقها، لا بد لكل عامل ان يتسم بكونه منتجاً، ماهراً، ومربحاً. وعلى هذا الأساس، ضروري أن تُؤمَّن له الظروف والشروط لذلك، بحيث يكون عمله مرتبطاً، أو بالأحرى مرتكزاً على الفرح. في النتيجة، تأخذ منظمة "القوة عبر الفرح" (Kraft durch Freude) على عاتقها مهمات الترويح عن العمال، وتسليتهم، من أجل ضمان وضع طاقاتهم في خدمة شغلهم.

بهذا المنطق، صنعت المصانع النازية عاملها، الحر في خضوعه، أي عاملها، الذي تتحول حريته إلى طريق نحو استلابه. وبهذا المنطق أيضاً، تصنع الشركات في نظامنا الرأسمالي العامل ذاته، الذي، وبفعل إئتماره بأن يكون حراً، اي بفعل إذعانه لفرض حريته، يسجل بؤس عالمه: استنزاف، واستقالة داخلية (bore out)، عدا عن الانتحار. ففي المعمل النازي أو في الستارت-آب، ولأنهما ينتظمان على المنوال الإداري نفسه، العامل هو الحر في امتثاله، والممتثل في حريته، الذي يسعى إلى تحقيق "المعجزة الاقتصادية" في عالم تنافسي، وإلى الفوز، وعلى طريقة داروينية، في صراع الحياة (lebenskampf)، وهما تحقيق وفوز لا يعنيان سوى تحطمه. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024