مار جرجس وسيدنا الخضر

محمود الزيباوي

الأربعاء 2017/04/26
كما في كل عام، تردّد اسم جورج في صفحات وسائل التواصل الاجتماعي في  يوم 23 نيسان-ابريل، وهو اليوم الذي يحتفل فيه العالم المسيحي بتذكار هذا القديس الخيّال. وتردّد بهذه المناسبة اسم الخضر، وهو الاسم الذي يُعرف به القديس المسيحي في العالم الإسلامي كما يُشاع اليوم. فمن يكون القديس جورج؟ ومن يكون الخضر؟ وهل صحيح أن الاسمين المختلفين هما لشخص واحد كما تقول العامة؟ 


هو جورج بلغة الفرنجة، وجاورجيوس في الكتب المسيحية العربية، وأصل الاسم كلمة يونانية معناها الحارث. عاش القديس جاورجيوس في القرن الثالث، وأقدم المصادر التي تتحدّث عن هذا القديس تعود إلى القرن الخامس، وتؤكّد أنه شهيد من مدينة اللد في فلسطين، كرّمه المسيحيون بتشييد ضريح فوق قبره. حاز هذا القديس على شهرة واسعة، وحظي بإكرام قلّ مثيله، ونسج الرواة حوله سِيَراً عديدة تزخر بالخوارق والعجائب، وبات من الصعب التمييز بين السيرة الأصلية والروايات المتفرّعة. في الذاكرة الجماعية، تحضر في المقام الأوّل صورة القديس ممتطياً جواده، مغمداً رمحه في تنين متوحش. في الواقع، يظهر جاورجيوس في الفن منذ القرن السادس، وتتكرّر صوره في القرون التالية، لكنه لا يظهر مع التنين في نهاية القرون الوسطى.

لا نجد أثراً لقصة جاورجيوس قاتل التنين في أقدم سير القديس، وهذه القصة هي بحسب أهل الاختصاص رواية دخيلة ظهرت في القرن الثاني عشر، وانتشرت في ما بعد. تقول هذه الرواية أن القديس مرّ في طريق عودته من كبادوكية إلى فلسطين، في مدينة تُدعى لاسيا يحكمها ملك كافر، وكان في جوار هذه المدينة بحيرة عظيمة يعيش فيها تنين متوحش. اقترح الملك تقديم طفل من أطفال أهل المدينة قرباناً في كل يوم على أن يتمّ اختيار الضحية بالقرعة. وافقت الرعية، وبات التنين يلتهم كل يوم طفلاً من الأطفال، إلى أن وقعت القرعة على ابنة الملك.

رضخ الحاكم، وبعث بابنته الأميرة إلى الوحش بعدما ودّعها بحرارة، فمضت طائعة، والتقت في طريقها إلى البحيرة بجاورجيوس، فسألها عن حالها، وقرر مواجهة التنين معها، وطلب منها أن تجحد بآلهتها، وأن تدعو للإله الحق، فأطاعته، فمضى وقضى على التنين أمام عيون الملك ورعيته، فتخلّوا عن آلهتهم، واعتنقوا المسيحية. فنياً، لا تظهر هذه القصة في الفن قبل القرن الرابع عشر، ويمكن القول أنها تكوّنت في القرن الخامس عشر، ثم انتشرت انتشاراً عظيماً، وباتت أشهر صور القديس في الشرق والغرب.

في العالم العربي، يُقال اليوم ان جاورجيوس هو الخُضر، لكن هذه المقولة الشائعة لا تجد أي سند مقنع. يُعرف جاورجيوس باسم جرجيس، وتظهر العودة إلى الميراث الإسلامي في شكل جلي أن إكرام جرجيس ليس تقليداً مستحدثاً، فالشواهد الأدبية التي تتحدث عنه عديدة، ومنها ما يعود إلى أكثر من ألف سنة. في العصر العباسي الأول، وضع المسعودي كتابه الضخم "مروج الذهب"، وفيه تحدّث عن جرجيس في باب "ذكر أهل الفترة ممن كان بين المسيح ومحمد صلى الله عليهما وسلم"، وقال: "وممن كان في الفترة بعد المسيح عليه السلام جرجيس، وقد أدرك بعض الحواريين فأرسله إلى بعض ملوك الموصل، فدعاه إلى الله عز وجل، فقتله، فأحياه الله وبعثه إليه ثانية، فقتله، فأحياه الله، فأمر بنشره ثالثة وإحراقه وإذرائه في دجلة، فأهلك الله عز وجل ذلك الملكَ وجميعَ أهل مملكته ممن اتبعه، على حسب ما وردت به الأخبار عن أهل الكتاب ممن آمن، وذلك موجود في كتاب المبتدأ والسير لوهب بن مُنَبِّه وغيره".

في الجزء الثاني من "تاريخ الرسل والتاريخ"، صاغ الطبري في "ذكر خبر جرجيس" سيرة طويلة زاخرة بالخوارق التي لا يتصورها عقل. جرجيس هنا واحد ممن أدركوا بقايا حواريي عيسى بن مريم في فلسطين، فسمعوا وأخذوا منهم. كان كثير المال، عظيم الصدقة، يربح من التجارة، وينفق كل ما يربحه في أعمال الخير والإحسان. وقد وجد هذا المؤمن الموحّد نفسه في مواجهة مع ملك الموصل حين ذهب إليه ليهديه المال، ذلك أنه كان يخشى أن يؤذيه المشركون في دينه، إلا أنه فوجئ بأن هذا الملك كان يوجب كل زواره بالسجود أمام صنم عظيم ويلقي بالنار كل من لم يسجد أمام هذا الوثن. وقد دفع هذا المشهد بالرجل الصالح إلى الجهاد، فقسّم المال الذي حمله على أهل ملّته، وذهب الى الملك ليجاهده لا بالمال بل بنفسه، ودعاه إلى عبادة الله ورفض عبادة الأوثان، وتعرّض إلى شتى أنواع التعذيب قبل أن يحظى بالراحة من بلاء هذه الدنيا مكللاً بفضائل الشهداء.

هكذا دخلت قصة جرجيس الذاكرة الإسلامية من الباب الواسع، وبات شهيداً من كبار شهداء الموصل. يُجمع أشهر الرحالة على الإشارة إلى وجود مقام لهذا الشهيد في المدينة التاريخية العراقية. في نهاية العصر العباسي، ذكر ياقوت الحموي في "عجم البلدان" قبر جرجيس النبي القائم في وسط مدينة الموصل. وفي العصر المملوكي، كتب ابن بطوطة في "تحفة النظار": "وبهذه المدينة مشهد جرجيس النبي عليه السلام وعليه مسجد والقبر في زاوية منه عن يمين الداخل إليه وهو فيما بين الجامع الجديد وباب الجسر وقد حصلت لنا زيارته والصلاة بمسجده والحمد لله تعالى". وهذا المسجد هو على الأرجح "مسجد النبي جرجيس" الكائن في منطقة سوق الشعارين، وهو من معالم الموصل.

لا تمت سيرة النبي جرجيس بأي صلة إلى سيرة الخضر، ولا تتقاطع معها بأي شكل. لا يرد اسم الخضر في النص القرآني، غير أنه مذكور في حديث البخاري، وهو في كتب المفسرين اسم "العبد الصالح" صاحب موسى في سورة الكهف (65-82)، والآراء الخاصة في هذا الاسم عديدة، والحديث في نسبه وفي نبوته وفي تعميره يقود إلى بحر من القصص والأخبار المتباينة. والشائع أن الخضر مشى على المياه، وأنه لم يمت، وهو مرشد كبار المتصوفة ومعلمهم. في حديث نقله البخاري، وُجد موسى "خضراً على طنفسة (أي سجادة) خضراء على كبد البحر مسجى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه تحت رأسه". وفي كتب التراث، يتكرر حديث يقول أن الأنبياء الأحياء أربعة إلى يوم البعث، اثنان في السماء، وهما عيسى وإدريس، واثنان في الأرض، وهما الخضر وإلياس. وينقل ابن عساكر عن الحسن البصري قوله بأن إلياس "موكل بالفيافي، والخضر بالبحار، وقد أعطيا الخلد في الدنيا إلى الصيحة الأولى، فإنهما يجتمعان في كل عام بالموسم".

جرى الخلط بين جيرجيس والخضر في الأزمنة الحديثة كما يبدو، إذ لا نجد أي إشارة إلى هذا الربط في المصادر القديمة. في قرية "سهوة الخضر" الواقعة في محافظة السويداء، نقع على كنيسة أثرية تحمل اسم القديس جاورجيوس. وفي جنوبي القدس، كذلك، تحوي قرية "الخضر" كنيسة باسم القديس جاورجيوس. هنا وهناك، تمّ ربط اسم القرية باسم شفيع الكنيسة، وبات الخضر الرديف الإسلامي للقديس جاورجيوس، لكن هذا الربط لا يفسّر شيوع هذه المقولة في عصرنا، والأرجح أن هذا الخلط يعود في الأساس إلى مقام مسيحي حمل اسم جاورجيوس، ثم حمل اسم الخضر عند تحوّله إلى مقام إسلامي في مرحلة لاحقة، وهذا الموضوع يحتاج إلى بحث علمي معمّق. 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024