مبارك شعب مصر

أحمد ناجي

الخميس 2020/02/27
في سنوات رئاسته الأخيرة، "هزّق" حسني مبارك نفسه كثيراً. فبعد أحداث 11 سبتمبر، أصيب الأميركيون بحمى الديموقراطية بعدما أقنعتهم مراكز دراسات الشرق الأوسط، أن مشكلة الإرهاب أساسها غياب الديموقراطية، فلا يجد الإرهابيون مساحات في بلدانهم المحلية، فينفجرون في نيويورك. لذا بدأت أميركا سلسلة من الضغوط على الدول العربية والإسلامية من أجل تحسين سجلها الحقوقي والقبول بمشاركة الإسلاميين في الحكم ورفع مستوى الأداء المسرحي الديموقراطي.

النتيجة كانت أن خرج مبارك علينا في 2005 من مسقط رأسه كفر مصيلحة، وأعلن تغيير الدستور والسماح بانتخابات رئاسية وتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير وغيرها من التغييرات التي قادت إلى خسائر 25 يناير.

في هذه الفترة، وجب على مبارك القيام بدور المرشح الرئاسي، فكان يصدر البيانات والحملات الإعلامية، ويظهر في الإعلام ليخطب ويتحدث عن إنجازاته وخططه والعبور للمستقبل. 
وصل الأمر أن اضطر للخروج من مصر الجديدة وشرم الشيخ، لزيارة محافظات وقرى نائية في مصر من أجل التقاط الصور مع المواطنين البسطاء، والحديث معهم. طبعاً، قامت وزارة الداخلية بتأمين العملية كلها، وتوفير المواطنين البسطاء، الذين يزورهم الرئيس فجأة في بيوتهم ليشرب معهم الشاي.

في واحدة من تلك الزيارات كان مبارك يتجاذب أطراف الحديث مع مخبر متنكر  في هيئة مواطن بسيط، وكان الأخير يروي لمبارك يومه وكيف لا تتوافر مواصلات لائقة لكي يذهب لعمله، وعليه كل يوم أن ينتظر العبّارة لكي تقلّه للشط الآخر من النيل. قاطعه مبارك ببداهته وسرعة ملاحظته وخفة دمّه المعهودة، قائلاً: "عبّارة من اللي بيغرقوا دول". ثم انفجرت ضحكاته البقرية الحبوبة.

كان مبارك يسخر من ضحايا عبّارة السلام، التي غرقت وعلى متنها أكثر من ألف مصري، لأن قوات الإنقاذ وسلاح البحرية يحتاجون لموافقة الرئيس للتحرك والرئيس كان نائماً ولم يرغبوا في إيقاظه.

يستعيد البعض هذه المشهد مؤخراً مع رحيل مبارك، للدلالة على العلاقة الخاصة التي ربطت مبارك بالشعب المصري، علاقة قوامها خفة الدم، والاستظراف، والاستنكاح، والاستهانة، والسخرية، والمازوشية. خليط من المشاعر والأحاسيس التي نمت على مدى أكثر من ثلاثين عاماً، بين مبارك وشعب مصر.

عبر أكثر من ربع قرن حكم فيها مصر، لا يتذكر المصريون أي إنجازات لمبارك غير خفة دمه واستظرافه معدوم الإحساس والتقدير، والتي تنفجر في مشاهد عبثية بلا معنى مثل المشهد الأخير.

في أكثر من حوار، سأل المذيع مبارك عن أحلامه حين كان قائداً لسلاح الطيران، وهو قال أن أقصى طموحه بعد تقاعده، كان أن يُعيّن ملحقاً عسكرياً في لندن ويقضي هناك أيامه الأخيرة، وحين يسأله المذيع لماذا لندن بالذات، يجيب: "علشان بلد اكسلانسات".

لم يحلم مبارك يوماً بتغيير العالم، أو تحقيق قفزات ثورية وحالمة. حتى شعار السيسي الحالي "مصر هتبقي قد الدنيا" لم يكن مطروحاً في زمن مبارك. بل تعامل مع حكمه لمصر كقَدَر، ورأى أن وظيفته تتلخّص في ما كان يردده: "لديّ 80 مليون مواطن، محتاجين ياكلوا، أجيب لكم منين؟"

أسس حكمه على شعار الاستقرار، والرقود على البيض حتى يفقس، والخميرة حتى نخبز. 
في سبيل الاستقرار، قتل مبارك أي محاولة للتغيير، أو فتح البلاد وإطلاق طاقات شبابها، ولولا 11 سبتمبر، وما تبعها من ضغوط أميركية عليه ليستيقظ من النوم تحت التراب، ما كان مبارك ليحقق إنجازه الوحيد، وهو رفع القبضة الأمنية قليلاً في سنوات ما بعد 2005، وتوسيع هامش حرية الرأي والتعبير، الأمر الذي قاد المصريين إلى الخروج من ظلام كهف الاستقرار نحو نور ميدان التحرير في 2011، لتعيدهم الدبابات سريعاً نحو عمق الكهف مرة أخرى في 2014.

لدى الشعب المصري ميراث عظيم يمتد لأكثر من خمسة آلاف عام، من عشق حكامه، والصبر عليهم. والثنائية الشعبية في التعامل مع الحاكم الظالم، لدى المصريين، هي الدعاء على الظالم أثناء حياته، ثم الترحم والبكاء عليه حين وفاته، ثم تلتف مجموعة من المخلصين حول أسطورة الحاكم ليصنعوا منه إلهاً من التمر والأوهام.

لذا فحتى بعد سنوات من وفاته، ما زال هناك في مصر من يعيش ويترحم على الملك فاروق. والناصريون من أنشط الطوائف اللدينية (عِلم ربّاني يصل لصاحبه من طريق الإلهام)، والساداتيون كذلك، وإن كانوا أقرب لطائفة باطنية سرية. ثم أخيراً أبناء ويتامى مبارك. حتى محمد مرسي المسكين، ما زال هناك من ينتظر ظهور وتجلي شرعيته.

وفاة مبارك لم تكن أزمة لدى الشعب المصري المعروف بتقديسه للموت وحبه لجلّاديه. فبالنسبة لغالبية المصريين، توفي مبارك في 2011 حينما شاهدوه في المحكمة نائماً على ظهره ويلعب في مناخيره بأصبعه. وخبر وفاته مؤخراً لم يكن سوى مناسبة لتجدد الحديث عن محاسن الراحل.

الأزمة الناتجة عن وفاة مبارك كانت لدى السلطة الحاكمة. فالسيسي ونظامه ليس لديهما أي دَين اتجاه مبارك ونظامه. بل ينظر نظام السيسي بقلق لمبارك ووولديه جمال وعلاء. يبرئهم من بعض القضايا ويدينهم في قضايا أخرى. يسمح لهم باستخدام "تويتر"، لكنه يمنعهم من حضور مباريات كرة القدم، ويضيق عليهم اختلاطهم بعموم الشعب المصري.

مع تصاعد أنباء تدهور حالته الصحية، كان القرار الأخير لدى السلطة المصرية هو تنظيم جنازة رسمية غير عسكرية لمبارك. جنازة تشارك فيها شخصيات رسمية وتخرج من مسجد المشير طنطاوي، لكنها لا تحمل الصفة العسكرية. خيار مثالي يحافظ على هيبة مبارك كابن للمؤسسة العسكرية في النهاية، ولا يجعل السلطة الحالية متورطة في معركة انحياز ودفاع عن سياساته.

لكن الضغوط توالت من الخليج، حيث أرادوا حضور الجنازة وتقديم واجب العزاء بمبارك. وهو موقف لا يعبّر فقط عن إخلاص ووفاء وجمال ومحبة وحُسن وكرم خليجي، بل يعبّر كذلك عن مكايدة وإفراط في إذلال الخصوم الذين قادوا الربيع العربي وتسببوا في خلع مبارك ومحاكمته وسجنه وذلّه في آخر أيامه.

تراجعت السلطة في مصر تحت الضغط الخليجي، فلم يكن معقولاً أن تعلن الإمارات الحداد وتنكس الإعلام، ثم تتنصل مصر الرسمية من فعل مماثل. لذا، صدر بيان رئاسة الجمهورية بعد أكثر من 12 ساعة على إعلان خبر الوفاة، ناعياً الفقيد، لا بصفته رئيساً سابقاً لمصر، بل كأحد أبطال حرب أكتوبر، لتأتي الجنازة وتقدم صورة مشرّفة عن مصر الجميلة.

فالسيسي ورموز النظام الحالي والسابق، يتقدمون صفوف الجنازة العسكرية التي مرّت على عجل، لدرجة أن إكليل ورد وحيداً تقدّم الجنازة، حاملاً عزاء الرئاسة والمجلس العسكري. وفي قاعة التعازي، اجتمع قادة النظام السابق في ركن، وفي الركن الآخر رموز النظام الحالي يتوسطهم مبعوثو الحكام الحقيقيين لمصر من أمراء الخليج وشيوخه. كل هذه الدراما الهابطة تدور في مجمع مسجد المشير طنطاوي. رجل المرحلة، الذي قاد إجراءات عزل مبارك، وانتظرتُ شخصياً أن يحضر الجنازة ليتحقق المثل الشعبي "يقتل القتيل ويمشي في جنازته"، لم يحضر للأسف بدعوى المرض.

أما خارج مسجد المشير طنطاوي، فقد تجمع أبناء ويتامى مبارك في طقس مازوشي من طقوسهم الشهيرة، رافعين لافتات وصُور حب مبارك، لكن لا يسمح لهم بدخول العزاء أو المشي في جنازته. أما في الانترنت، فقد حاول المصريون استحضار طقوس الموت وجلاله في عبارات من نوع "لا شماتة في الموت"، أو "له ما له.. وعليه ما عليه". لكن الإجابة الحقيقية تخرج ساخرة، متمثلة في عشرات "الميمز" والنكت والافيهات على مبارك ووفاته وجنازته، في وداع يليق بأسخف مَن حكم مصر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024