مهرجان "رؤى الواقع".. حقائق مهمة ووقائع مهملة

محمد صبحي

الأحد 2020/05/10
في وقتنا الحالي المطبوع بالأزمة الوبائية الكورونية، صار عرض الأفلام على الشاشات الصغيرة ممارسة شائعة عند نقّاد السينما، فيما تبخّرت آمال أفلام كثيرة في الخروج على جمهورها المتوقع في دور السينما التقليدية أو حتى في العروض الصحhفية المنتظمة. بدافع من التحايل على الأزمة وتقليل الخسائر وإنقاذ الصناعة، اختلف شكل تلقي المنتَج السينمائي، فعادت من جديد صالات سينما السيارات في بلدان أوروبية مثل هولندا وألمانيا، وقام بعض الموزعين بتحويل إصدارات أفلامهم إلى البث عبر الإنترنت. والآن، صارت بعض المهرجانات السينمائية نفسها تنقل برمجتها إلى الإنترنت بدلاً من إلغاء عروضها، ضمن واقع طارئ يولِّد حلولاً جديدة، على الأقل في ما يتعلق بوظيفة المهرجانات السينمائية والوصول إليها.

من بين تلك المهرجانات العريقة المتوائمة قسرياً مع الوضع الاستثنائي، مهرجان الأفلام الوثائقية السويسري "رؤى الواقع"، وهو ملتقى سينمائي غني بالتقاليد ومهم لصناعة الأفلام الوثائقية، تأسس في عام 1969 على يدّ موريتز دي هادلِن (قبل توليه مهمة الإدارة الفنية لكل من مهرجان لوكارنو وبرلين وفينيسيا بين أوائل السبعينيات وأوائل الألفية الجديدة) في بلدة نيون الجميلة على ضفاف بحيرة جنيف، وكان من المقرر إقامة فعاليات نسخته لهذا العام من 24 أبريل/نيسان إلى 2 مايو/أيار. ثم جاء كورونا، ومن بعده الحظر المفروض على الأحداث الكبرى، في سويسرا كما في بقية دول العالم، فقرر فريق المهرجان - برئاسة المديرة الفنية إميلي بوجيس – الذهاب إلى الإنترنت بدلاً من إلغاء المهرجان بأكمله، على الرغم من قصر المدة المتاحة أمامهم للترتيب والتحضير لهذا الانتقال المفاجئ.

نتيجة لذلك، امتدت فعاليات دورة المهرجان حتى يوم 5 مايو/أيار، حفلت بعروض أفلام في مختلف المسابقات وسلسلة المعلومات، وتخلّلتها منتديات نقاشية ولقاءات سينمائية عبر مكالمات الفيديو، بما في ذلك محاضرات قدّمتها كل من الفرنسية المخضرمة كلير دوني ومخرجة الأفلام الوثائقية البرازيلية بيترا كوستا وصانع الأفلام السويسري الكندي بيتر ميتلر.

جهد تنظيمي وفني هائل لا يمكن إنجازه إلا بمساعدة شركات متخصصية وأفراد محترفين باستطاعتهم الاندماج في العمل بسلاسة وكفاءة، رغم ضغوط الوقت وتغيُّر الخطط. رغم ذلك، وبسببه أيضاً، شاب العروض التقديمية والوصول إلى الأفلام بعض من الإرباك، في حين تاه المتفرج/الناقد/ المستخدم أحياناً في تجواله لتشغيل فيلم معيّن. والواقع أن رغبة المهرجان وراء الاحتفاظ ببعض سمات نسخته "الطبيعية" السابقة، والتي أدت به إلى إنشاء حشود رقمية وأجواء مهرجانية - بشكل مصطنع -  من خلال تقييد الوصول إلى الأفلام إلى أول 500 حاجز افتراضي، لم تكن فكرة كافية للإقناع. من ناحية أخرى، من المفهوم رغبة أصحاب حقوق الأفلام في إبقاء الوصول إلى أعمالهم تحت السيطرة.

بعيداً من الأمور التنظيمية، أدركنا أيضاً كيف أن هذه الأوقات التاريخية بامتياز تولِّد صوراً حقيقية تتجاوز بكثير الخيال نفسه وتعطينا لمحة تسجيلية عن واقع مختلف عما اعتدناه أو واقع مجاور تناسيناه، وكلها باعثة على القلق بشأن مصير العالم الذي نتشاركه جميعاً. ربما يكون هذا هو الإحساس الذي يبقى بعد مشاهدة الوثيقة المذهلة والصعبة الممتدة لأكثر من ساعة بقليل، في "بحر أرجواني"، بصوره التي لا تحتمل الوصف كما رصدتها كاميرا السورية أمل الزقوت. أو بعد إدراك الواقع المفاجئ لمنتجع دافوس السويسري، حيث تُعقد القمة السنوية لكبريات اقتصاديات الكوكب، من خلال رؤية بانورامية لما تغيّبه شاشات الأخبار. أو حتى بالتمعّن في المشترك بين غرابة الحدث الذي يجمع أهالي قرية برازيلية، خلال الاحتفالات الدينية السنوية المكرسة لأحد القديسين، ينتهي بحصول كلب على لحظة من المساواة الكاملة مع الإنسان؛ وبين الطرق غير المتوقعة التي يمكن للحبّ سلكها للإيلاف بين زوجين.

كيف تقدّم تصوراً سينمائياً صادقاً لحالة غرق سفينة دون اللجوء إلى إنتاج ضخم مليء بالمؤثرات البصرية الخاصة؟ ربما فقط صدمة التجربة كفيلة بالأمر. تلك هي حال الصور الملتقطة بكاميرا مثبتة في ساعة يدّ الفنانة السورية أمل الزقوت، استخدمتها أثناء رحلتها فوق سفينة تهريب، تحمل مهاجرين فارّين من الساحل التركي صوب جزيرة ليسبوس اليونانية في عام 2015، مع أكثر من 300 شخص على متنها، لتنتهي غارقة وسط البحر المتوسط ​​الذي ابتلع نحو 50 شخصاً، بقوا لمدة 15 ساعة تقريباً متشبثين بعوامات الإنقاذ وغيرها مما طالتها أيديهم بحثاً عن النجاة.

في ذلك الجزء من الفيلم، المغمور بسخاء من أشعة الشمس التي تضيء مثل هذا البحر الأزرق وتسمح بصورٍ مدهشة تحت الماء مفتوحة على جمالٍ مخيف؛ نعيش الدوّامة المستمرة لحركات الساقين والذراعين، حيث كل حركة وإيماءة هي في صميمها استغاثة بقاء يائسة وأخيرة. يُبرز عنصر الصوت هذا النضال الدائم في الماء البارد، يرافقه تشويش المطاط الذي يخمد ضجيج الصرخات، ويصاحب هذا كله صوت أمل نفسها في رسالة مفترضة موجهة إلى رفيقها خالد عبد الواحد، وهو فنان وصانع أفلام يعيش في ألمانيا، والمخرج المشارك لهذا الفيلم الذي شهد عرضه العالمي الأول في الدورة الأخيرة من "مهرجان برلين السينمائي"، ضمن عروض قسم "المنتدى الموسَّع".

كلمات الرسالة تشبه إلى حد ما قصيدة "رسالة إلى يوكي" التي كتبها روبرت ديسنوس في عام 1944 من معسكر اعتقال بوخنفالد (معسكر اعتقال نازي أنشئ  عام 1937 قرب مدينة فايمار شرق ألمانيا)، وتضيف متانة إلى تلك الصور السائلة الجميلة على نحو غريب في زرقتها الجينزية وبرتقالية عوامات النجاة. لا وجوه هنا، لأن اللاجئين ليس لهم وجوه. هنا، قبالة جزيرة ليسبوس، ليس ببعيد عن موقع بوخنفالد، صراع قاهر من أجل الحياة. "إنه يوم جميل. السماء مشرقة. البحر أزرق أرجواني"، تسمع، قبل أن يحاول الصوت نفسه أن يلهيك ويقترح: "سأتعلم اللغة الألمانية وسأشاهد المسلسلات السورية على "يوتيوب". ثم تأتي الراحة: "أمس حلمت، كنت في البحر، مستلقية على ظهري. الشمس دافئة، البحر قرمزي. لم أعد خائفة".

ماذا يمكن أن يكون الواقع المضاد لواقع البقاء هذا؟ ربما اجتماع بعض سكان مدينة دافوس للتفكير في إيجابيات وسلبيات، الأخيرة على الأخصّ، استضافة منتدى دافوس الاقتصادي لمدة نصف قرن، حيث يُفترض أن أغنى دول العالم تجتمع كل عام سعياً إلى حلول متساوية. لكن الفيلم الوثائقي الذي وقعه دانييل هويسل وجوليا نيمان، يلتقط الواقع البديل الذي يحيط بهذا الحدث، حتى إنه يقوم بزيارة مزرعة محلية لمشاهدة ولادة عجل – في الأخير ينزل ميتاً. هناك أيضاً مهاجرون برتغاليون يصطادون سمك السلمون المرقط ويُظهرون متعة اكتساب المال السهل خلال تلك الفترة، ومجموعات النشطاء الراديكاليين الذين يعدّون استقبالهم لزعماء أغنى بلدان الكوكب (حيث لا يوجد نقص في الملصقات المناهضة لسياسات تدمير الطبيعة بحجة التطوير والتحديث)، ومقابلات مع أفراد الأمن وتحذيراتهم المتكررة بشأن الكاميرات. لذلك عندما نصل إلى النهاية، ليس دونالد ترامب – او حماقته بالأحرى - هو ما نشعر به، لأن ذلك، تحديداً، قد يكون الصورة التي نستغني عنها في فيلم وثائقي رائع الملاحظة لا تُصدر فيه الأحكام، وديالكتيكات صراعاته أكثر من مجرد إسهال الإجابات السهلة والمطمئنة.


من سويسرا أيضاً، يأتي الفيلم الجديد للمخرج السويسري توماس إمباخ، "نيمسيس"، الذي يبدو مصمماً خصيصاً، من حيث موضوعه ومنظوره، لكوكبة راهنة من القضايا العالمية بشأن سياسات الرؤية والأمان والمراقبة. يتشارك "نيمسيس" أجواءه مع فيلم إمباخ السابق "انتهى اليوم" قبل تسع سنوات، من حيث طريقة بنائه، من خلال مزج قصة تحوّل أحد المعالم الحضرية بالأفكار والتساؤلات الشخصية للمخرج في يوميات مصوَّرة. في الفيلم الجديد، يجري ربط قصاصات صوتية من أحد أجهزة الرد الآلي بلقطات طويلة متأملة من نافذة استوديو إمباخ لمحطة الشحن القديمة في زيورخ. نرى الآن هدم هذه المحطة، بعد فترة طويلة من الاستخدام، لبناء سجن حديث شديد الحراسة في مكانها، وفي الأثناء نستمع إلى روايات اللاجئين المنتظرين ترحيلهم من سويسرا. يتكشّف الفيلم، بطيئاً، عبر ملاحظة عملية محو الماضي واستبداله بالأجهزة الأمنية.

استغرق إمباخ ست سنوات ونصف سنة لتصوير فيلمه، ما يدفع إلى التفكير في ما بذله فريق العمل في المونتاج وتضفير الفترات الزمنية وتصميم الصوت، لفترات طويلة، حتى تطوَّرت الرؤية المتلصّصة على جغرافيا محددة محدودة إلى مستويات متعددة الطبقات من التأمل، غالباً ما تتألق مع كوميديا ​​حقيقية ترافق مشهدياتها.

صوّر إمباخ فيلمه على شريط سينمائي 35 ملم. بينما في جانب آخر، تأتي الصور في "صيف غير عادي" للفلسطيني المقيم في برلين كمال الجعفري، مشوّشة ومُضَبّبة على نحو رائع. في فيلمه الجديد، يستكمل  الجعفري عمله المنشغل بالأرشيف والصور الزمنية، استناداً إلى صور كاميرا المراقبة الخاصة بوالده في أحد مواقف السيارات الصغيرة أمام منزله في ما يسمّى بـ"الغيتو العربي" في بلدة الرملة بفلسطين المحتلة. يصيّر الجعفري صوره شعراً مرئياً، مع تداخلات مميزة لنصوص مكتوبة وإيقاعات مُخلَّقة ترفد اللقطات فقيرة التفاصيل بجوانب رؤية أبعد وأشمل: "على الحياة أن تتعطَّل قبل أن يتسنّى كشف مكنونها".

لكن فيلمه يُظهر أيضاً، بجلاء، أن التشكُّك في جدوى عرض الأفلام على الشاشة الصغيرة له ما يبرره، خاصة مع بعض لقطات فيلمه ذات الإضاءة المنخفضة للغاية، التي لا يمكننا تخمينها إلا في إطار النوايا الجمالية.


يفخر المهرجان في نيون بأن 45 في المائة من الأفلام المعروضة من توقيع صانعات أفلام، على الرغم من أن خمسة فقط من أصل أربعة عشر فيلماً في مسابقة الأفلام الطويلة لمخرجات. على القلة النسبية للتواجد النسائي داخل المسابقة الرسمية، جاءت تلك المشاركات بأفلام قوية ومدهشة.

بالإضافة إلى فيلم أمل الزقوت وخالد عبد الواحد،  قدَّمت الإيرانية أفصانة سالاري في فيلمها "صور ظلّية" بورتريهاً متوازناً ودقيقاً وحسّاساً لجيلٍ ثانٍ من المهاجرين منقسم بين الحنين إلى وطن لم يعرفه قط وبين أرض بخيلة المشاعر يعتبرها وطنه الذي لا يعرف غيره. يلتقط الفيلم عائلة هاجرت من أفغانستان إلى طهران قبل ثلاثين عاماً، في ذروة الغزو الروسي لأفغانستان، ضمن أكثر من 1.5 مليون أفغاني انتقلوا إلى إيران بحثاً عن حياة جديدة. لكن العائلة لم تجد في إيران وطناً، لرفض المجتمع الإيراني، الذي لا يملك ميلاً كبيراً تجاه الأجانب وفقاً للفيلم. أما رغبة الجيل الثاني الشاب من المهاجرين في المشاركة والانتماء، فيجهضها تمييز يومي يدفعهم إلى أخذ قرار العودة إلى وطن الآباء، سعياً وراء ما هو مفقود في إيران. فيلم رقيق وإنساني للغاية يوجّه نظرتنا إلى العالم الكبير أبعد من الحساسيات الضيقة.

وفي "آمور فاتي" تستكشف البرتغالية كلاوديا فاريخاو موضوعة الحب وتتساءل عما يشكّل الأزواج في العالم المعاصر. يقتبس الفيلم عنوانه من تعبير لاتيني يعني حب المرء لقدره، أي أن يرى المرء كل ما يحدث في حياته - بما في ذلك المعاناة والخسارة - خيراً أو على الأقل ضرورياً. لبيان ذلك، يأخذنا الفيلم في رحلة عجيبة ومدهشة في إثر علاقات مختلفة ومتنوعة تتصل في ما بينها رغم تباينات القرب والمسافة والمصير بين أطرافها.

يفعل الفيلم ذلك، سواء بمقاربة علاقات مألوفة بين توأمين أو شقيقين وشقيقتين، في فئات عمرية مختلفة ممثلة جيداً هنا، أو في علاقات أخرى أقل شيوعاً، مثل سيّدة مع كلبها، والعلاقة بين اثنين من العابرين جنسياً، ورجل مع حصانه أو آخر مع نسر، أو حتى مشجّع رياضي لا حدود لحبّه لفريقه الأبدي بنفيكا. مثل قصيدة هايكو غير متوقعة أو رقصة متناغمة بين إثنين، يسيّر الفيلم روايته، حيث الحب موجود في جميع الأشكال والأحجام، وجميع الأزواج ممكنون في عالم كلاوديا فاريخاو الشاعري والواقعي.

أما الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى للمهرجان، "بونتا ساكرا" للإيطالية فرانشيسكا مازوليني، فهو وثائقي جميل عن المقاومة، والقتال من أجل حق العيش، والدفاع عن انتماء الفرد لقطعة محددة من الأرض. يركّز الفيلم على المجتمع الذي يعيش في المثلث السكني الأخير عند مصب نهر التيبر على حواف العاصمة الإيطالية روما. هناك تبرز منطقة صغيرة تُعرف باسم "إدروسكالو دي أوستيا" فوق سطح البحر مباشرة. النساء اللاتي يعشن هناك، مثل فرانكا وبناتها، يرمّمن قصص المكان، رفقة القوة الطبيعية للموقع، بخليط من الواقعية البريّة والخيال الشعبي والاستمرار في العيش بكرامة وسخرية ذاتية.

مثلما تصبح تلك البقعة مسرحاً لمقاومة مجتمع يعلن تمسكّه بحقّه في العيش هناك، يبرز الفيلم معركة هؤلاء العائلات والنساء، كامتداد لغيرها من المقاومات المماثلة في أماكن متفرقة من العالم، حيث تتخَّذ خيارات وقرارات وتتحدّد مصائر ناس وأراضي، بحجة التطوير والتحديث، من دون أدنى معرفة بقصصهم الحقيقية أو اعتبار لواقع ارتباطهم ببيئاتهم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024