عبد الهادي الجزار عالميًا..

هشام أصلان

الخميس 2018/07/05
مع منتصف تسعينيات القرن الماضي، عرف المهتمون في مصر سوق الفن التشكيلي العالمي. السمسرة وصالات المزادات والأسعار العالية نسبيًا. قبل ذلك، بسنوات ليست كثيرة، كان مُتاحًا لبعض هؤلاء المهتمين اقتناء لوحة أو أكثر لفنانين صارت التجارة في أعمالهم هذه الأيام استثمارًا كبيرًا. وهذا ما حدث مؤخرًا مع الزوجين الأميركيين جورج وجانا لوادو، اللذين كانا يعملان ضمن برنامج المعونة الأميركية في القاهرة في الثمانينيات، واللذين، أيضًا، ظهرت أخيرًا لديهما لوحة عبد الهادي الجزار الشهيرة "أذن من طين وأخرى من عجين"، بعدما اختفت عشرات السنين وعرفها الجميع عبر نُسخها المقلدة. اقتنياها أيام "الرُخص"، وهما الآن ينويان عرضها للبيع في مزاد "فنون الشرق الأوسط" الذي ستقيمه "كريستيز" في أكتوبر المقبل، بحوالى نصف مليون دولار كبداية للمزايدة.

لفتني الخبر، ولجأت إلى أحد أساتذتي في الحياة، وهو الكاتب والناقد الفني سمير غريب، لمعرفتي باطلاعه الواسع على أمور وتاريخ الفن التشكيلي في العالم، ولمعرفتي أيضًا بكونه ضمن الكُتّاب المشاركين في مشروع كبير لإعداد "كتالوغ مُسبب" لعبد الهادي الجزار يصدر بالإنكليزية العام المقبل عن دار سكيرا، إحدى كبريات دور النشر الإيطالية والمهتمة بالفن التشكيلي.

حكى لي سمير غريب أن المسألة بدأت منذ سنوات، عندما شرعت الناقدة والخبيرة الفرنسية، فاليري هِس، في إعداد "كتالوغ مُسبب" بالإنكليزية، للرسام المصري العالمي محمود سعيد، بعدما لفتها أن أياً من المتاحف الكبيرة في العالم لم يقتنِ شيئاً من أعماله، على ما حققته هذه الأعمال في سوق الفن التشكيلي ورغم بيع لوحته "الشواديف" في 2009 بمليوني دولار في أحد مزادات كريستيز، وهو أعلى سعر وصلت إليه لوحة لرسام من الشرق الأوسط.

صار محمود سعيد، إذن، أول فنان مصري يصدر له هذا الكتالوغ. أشرفت عليه فاليري، ومعها الباحث السكندري حسام رشوان، بما له من خبرة في أعمال سعيد وعلاقة مع أسرته، مع الاستعانة بكتابات عدد من المتخصصين من بينهم سمير غريب. ثم بعد نجاح التجربة، قرر فاليري ورشوان، إنجاز مشروع مماثل لعبد الهادي الجزار، الذي يعتبره البعض ثاني أهم رسّام مصري بعد محمود سعيد. ويتم الإعداد بالتعاون مع مؤسسة الجزار التي أنشأتها أسرته، ويشارك في كتابته متخصصون، ومنهم: سمير غريب، شاكر عبد الحميد، ياسر عمر أمين، أمل نصر، محمد عبلة، عديلة عصمت، مصطفى عيسى، ماهر داوود، وإيناس الهندي.

لكن ماذا يعني "كتالوغ مُسبب"؟
يجيب سمير غريب إنه مشروع كبير، عبارة عن مُجلد ضخم يتتبع ويضم كل ما يخص الفنان حرفيًا، ولو كانت أقصوصة صغيرة، ويُعتد به قانونيًا حتى في مواجهة عمليات التزوير. هكذا تأتي صعوبة إعداده، إذ يذهب معدوه في رحلة بحث حقيقية وراء مصير كل لوحة رسمها. ومن هنا كانت رحلة بحث فاليري هِس، وراء لوحة الجزار المختفية منذ سنوات طويلة "أذن من طين وأخرى من عجين"، حتى وصلت إلى مقتنييها اللذين أبلغاها برغبتهما في بيعها. من هنا أيضًا تواصلت فاليري مع الفنان الكبير المقيم في أميركا، أحمد مرسي، وأجرت معه حوارًا طويلًا سيضمه الكتالوغ، ما يعتبره سمير غريب خطوة مُهمة في طريق إنجاز المشروع، لما يُمثله مرسي كمرجعية في هذه الفترة من تاريخ الفن التشكيلي المصري.

اللوحة رسمها الجزار في العام 1951، أي حين كان في السادسة والعشرين من العمر، فهو مولواد العام 1925 في حي شعبي في الإسكندرية، وهي للمصادفة المدينة التي ولد ونشأ فيها محمود سعيد. ترك كلية الطب بعد شهور قليلة من التحاقه بها، والتحق بكلية الفنون الجميلة، ثم سريعًا بات أحد أبرز أسماء "جماعة الفن المعاصر" التي أسسها حسين يوسف أمين، وأفرزت، مع الجزار، أسماء من قبيل حامد ندا وسمير رافع وغيرهم.

والبحر الذي كبر الجزار على شاطئه، ليس بحر المصطافين والآتين من مدن مصر للتنزه، لكنه بحر الميناء، حيث السفن والبضائع وتفاوتات الطبقات ومشاهد العمال وشيّالي الحقائب والصناديق.

ظل فنه ابناً بارّاً للبيئة البسيطة والشعبية، وطرحت أعماله أسئلة الظلم وقبح الاستعمار وأثره في البسطاء، مرورًا باعتقاله من قبل الملك فاروق بسبب لوحته الشهيرة "الكورس الشعبي". غير أنه لم يكن ليحتل هذه المكانة بالطرح السياسي منفصلًا عن موهبة كبيرة صاغت أسئلة الفن والإنسان بامتياز.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024