"ثلاثة وجوه"لجعفر بناهي: الفنان في مواجهة القمع والتشدد

علاء رشيدي

الأحد 2019/04/28
تصور الفتاة الأذرية مرزييه رضائي عبر هاتف خلوي وبتقنية السليفي، رسالة - فيديو توجه فيه خطابها إلى الممثلة الإيرانية بهناز جعفري. الفيديو مؤثر ومثير للرهبة، فهو مصور في مغارة، تروي فيه مرزييه عن رغبتها في التمثيل، وتشتكي من تضييق عائلتها عليها ومنعها من متابعة دراستها في معهد التمثيل. تنهي مزرييه الفيديو بالطلب من صديقتها أن توصله إلى الممثلة بهناز جعفري، ومن ثم تقدم على الانتحار شنقاً...


في المشهد التالي ندرك أن بهناز جعفري (الممثلة) قد شاهدت الفيديو، لقد تركت أشغالها ومواعيد تصوير برنامجها التلفزيوني في إيران، لتتجه برفقة المخرج جعفر بناهي في سيارة إلى منطقة الجبال في شمال غربي إيران بحثاً عن مكان مزرييه. 


رحلة انقاذ هاوية التمثيل 
تصرّف بهناز جعفري، وجعفر بناهي تجاه هذا الفيديو يستحق التوقف والتحليل. يمكن العودة إلى التحليل التقليدي في الحبكات الفيلمية وهو المتعلق بمحاولة إنقاذ حياة إنسانة مشرفة على الموت، والبعض رأى أن المحرك الأساسي للشخصيتين هو الشعور بالذنب لتأخرهم في تلبية نداء الفتاة. لكن التأويل الذي ينطبق بوضوح على رد فعل الشخصيتين هو التعاضد بين الفنانين. تشعر الممثلة (الشهيرة) ويشعر المخرج (المخضرم) وكأنهما مسؤولان عن هواة هذه المهنة، أي التمثيل، في مجتمع محافظ. السينمائي قيّم على السينما. هو تعاضد ممثلة ومخرج شهيرين مع فتاة مجهولة هاوية تمثيل تعيش في قرية مجهولة شمال البلاد، لتنطلق رحلتهما للتعرف على حالها.

السينمائي الممنوع من الأفلام 
هذه الحبكة اللماحة في حكاية الفيلم، ، تكتسب تأويلات جديدة عند التعرف على الحال الحقيقي الذي هو يعيشه منذ سنوات، جعفر بناهي نفسه. بتهمة الترويج لأفكار تناهض الجمهورية الإسلامية الإيرانية، التي أصدرت منذ عشرة سنوات حكماً عليه بالإقامة الجبرية التي خُفضت لاحقاً، وجرّد من أوراقه الثبوتية لمنعه من السفر خارج إيران، أما العقوبة التي يمكن أن تشير إليها حبكة الفيلم أيضاً فهو منعه من تحقيق وصناعة الأفلام لعشرين عاماً.

ألا يمكن اعتبار حبكة فيلم "ثلاثة وجوه" حيث فتاة هاوية تمثيل تستنجد بممثلة ومخرج شهيرين لإنقاذها من الموانع والمحرمات في مجتمعها التقليدي – تنطبق على حال جعفر بناهي نفسه الممنوع من صناعة الأفلام؟ ألا يعتبر فيلمه هذا دعوة إلى سينمائي العالم للتعاضد معه ومساعدته في الحال التي يعايشها منذ عشرة سنوات عقوبةً على فنه وإنتاجه السينمائي؟

منذ صدر الحكم بمنعه عن العمل السينمائي، لم يتوقف جعفر بناهي عن تحقيق الأفلام، منها:  "هذا ليس فيلماً" (2011)، "برده"(2013)، "تاكسي طهران"(2015). لقد حقق جعفر بناهي هذه الأفلام بالتعاون مع عدد من الزملاء، من المنتحين، أي بفضل "تعاضد الفنانين" اوهو موضوع فيمله الحالي "ثلاثة وجوه"، وفي ينقل بناهي  حكاية فتاة هاوية تمثيل معاقبة وممنوعة من ذلك بسبب مجتمعها. وهو كذلك مخرج معاقب، ومهدد في حياته وحريته بسبب تعلقه بالفن السينمائي ورغبته في تحقيق الأفلام.


المتشددون يتعاضدون أيضاً
حين تصل الممثلة والمخرج إلى قرية الفتاة الجبلية المعزولة، يجدون أنفسهم إزاء مجتمع الأهالي الذي يحاول إخفاء أية معلومات تتعلق بمزرييه، التي يصفونها بـ"المجنونة والفاقدة للعقل" ولا يبوح السكان بأي خبر أخبارها، ويصفون معهد تدريس التمثيل، بـ"معهد تدريس القذارة". والحال أن تكتم الأهالي أيضاً هو شكل من أشكال من تعاضد المجتمع المحافظ لحماية العادات والتقاليد. من المفارقة أن أهالي القرية يرحبون بشدة بحضور بهناز جعفر صاحبة البرنامج التلفزيوني المتابع من قبلهم، ويتعاملون بإحترام وتقدير مع جعفر بناهي، لكنهم يرفضون أن تكون مزرييه(ابنة القرية) ممثلة. حين يدرك الأهالي أن الممثلة والمخرج قادمان لأجل قضية مزرييه، وليس لأجل مساعدتهم وإيصال صوتهم إلى الإعلام، ينفضون عنهما، ويبدون تململاً من وجودهما وحضورهما في القرية.

ذنوب مفروضة 
أولى الحالات التي يقابلها المخرج والممثلة في القرية، هي حالة امرأة عجوز تنام في القبر، وحين يسألها المخرج عن سبب نومها في حفرة في الأرض وإلى جانبها الفانوس، تقول المرأة: "أريد أن أنير قبري بالفانوس، لأمنع اقتراب الأفاعي التي تلتهم الجسد المذنب"، إنها لا تعرف ما هي ذنوبها، ولكنها تعتقد أن لابد لها من ذنوب. يرى د. عمار الياسري في هذه الحكاية نقداً لتأثير الفكر الديني المتشدد الذي يجعل من البشر والشعوب مذنبين بطبيعة حضورهم وكينونتهم. فهذه المرأة العجوز تعيش في القبر مقتنعة بأنها ستعاقب كمذنبة رغم أنها لا تدرك ذنوبها. هل عقوبة المنع من تحقيق الأفلام ستدفع جعفر بناهي يوماً إلى الشعور بالذنب كونه محترفاً صناعة الأفلام؟ 


مصائر العزلة واليأس 
الحكاية الفرعية الثانية هي تنويعة كتبها جعفر بناهي في السيناريو عن حال الفنانين، هي نموذج آخر لمصير العامل في السينما. كانت شهرزاد، وهي من أهالي القرية، ممثلة ومغنية شاركت في أفلام في مرحلة إيران ما قبل الثورة، لكن الحكومة التي استلمت السلطة بعد الثورة نظرت إلى الفن والغناء كممارسة ممنوعة ومرفوضة اجتماعياً. أصبحت شهرزاد متروكة دون ضمانات أو رعاية. انعزلت في منزلها، وعوملت كملعونة شمطاء، ففرض عليها الإنطواء وعدم التواصل، هي الآن تقضي وقتها بالرسم والنظر إلى بوسترات الأفلام التي شاركت بها في الماضي. 
ندرك مدى اليأس التي وصلت إليه شهرزاد حين ترفض لقاء حتى جعفر بناهي. تقول بهناز جعفري عن حالة شهرزاد: "هي ممثلة ومغنية، شعرت أنها مستغلة ومهملة حتى من قبل المخرجين الذين عملت معهم"، وهنا ولأول مرة في الفيلم يرفض سينمائي رؤية سينمائي آخر لأنه فقد الإيمان بتعاضد الفنانين ومهنتهم. حالة شهرزاد مؤشر لما يمكن أن يكون عليه حال الفنان المهمل من قبل زملائه. مصيره الإهمال، الإنطوائية، اليأس وفقدان الإيمان بمشاريع الفن.
قارب العديد من النقاد بين أسلوب جعفر بناهي الإخراجي في "ثلاثة وجوه"، وبين فيلم "وتحملنا الريح"، (1999) للمخرج عباس كياروستامي، كاميرا اللقطات الثابتة الطويلة على مشاهد واسعة وجامدة من الطبيعة حيث يتحرك جسد الممثل داخل الكادر مصوراً من بعيد. لا تتبع الكاميرا على الدوام المتحدث في المشهد، بل أحياناً على المشاهد أن يركز على الشريط الصوتي ليفهم ما يقال أو ما يجري، بينما العدسة ثابتة على تصوير وجوه الصامتين من الشخصيات، الكاميرا تحاول أن ترصد تأثير الأحاديث والمعلومات على وجوههم ومشاعرهم، بينما صوت المتحدث آتٍ من خارج الكادر. 
بالتوازي مع هذا الأسلوب الإخراجي، هناك الأداء التمثيلي، فبهناز جعفري تلعب دورها في الفيلم بهناز جعفري نفسها، وكذلك جعفر بناهي هو الشخصية جعفر بناهي في الفيلم. المؤدون يلعبون شخصيات أنفسهم، ما يتطلب منهم الصرف بعفوية، الحفاظ داخل مساحة التصوير على طريقة حركتهم ومشيتهم وتصرفهم الفعلي خارج الكادر. لذلك نرى الإخراج لا يفرض على الممثلين إيقاع أداء معين، مشهدية مريحة للممثلين كي يتحركوا ويتصرفوا بالإيقاع المناسب لهم. لا إدعاءات في الحركة أو الأداء مفروضة من قبل اللقطة الإخراجية، وبالتالي فأغلب اللقطات الإخراجية ممتدة الإيقاع، وانسيابية في مساحة ولقطة الكادر.
"ثلاثة وجوه" فيلم عن السينما والتمثيل، كأن مخرجه وكاتبه يحور من حكايته الشخصية الذاتية لينقلها إلى السينما عبر حكايات شخصيات أخرى. وهو إشارة عن ضرورة تعاضد الفنانين، خصوصاً في مجتمعات تعاني من القمع والتشدد، وعن المصير الكارثي الذين يمكن أن يصيبهم في حال غياب التعاضد. يتنبأ جعفر بناهي لهم بالإنطوائية، اليأس، والإنتحار، في حال التخلي عنهم.

(*) عرض في مهرجان بيروت السينمائي الدولي في سينما ميتروبوليس – صوفيل. والفيلم فائز بجائزة أفضل سيناريو في مهرجان كان السينمائي 2018 بدون حضور المخرج.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024