عالم الكلاب

هلال شومان

السبت 2015/08/01
يصعب له تخيّل أنّ ما حلم به يحدث أمام ناظريه، فهو لم يعتد أن يرى أحلامه تتحقق.

في الحلم، كان يجد نفسه ماشيًا على غير هدى في شارع من شوارع المدينة. الشارع فارغ من الناس، يحوي مباني متلاصقة على جانبيْه، ويغرق بالردم والنفايات، والكلاب تمشي جماعات قربه. كان يخاف من الكلاب، لدرجة أنه كان يسمع دقات قلبه تتعاظم كلما اقتربت منه، لكنّه يبقى يحافظ على مشيه البطيء محاذرًا إظهار خوفه. كان يفكر أنّ الإسراع سيلفت نظر الكلاب، وأنّها ستنقضّ عليه، وأن نجاته مرتبطة بنجاح إشعاره لها أنه متعايش معها. وهكذا كان يكتفي بالمضي قدمًا. لكنّ الكلاب كانت تتجاوزه كأنها لا تراه، ربّما لأنه دخيل على المكان، لأنه هنا وليس هنا، ولأنّ هذا هو عالم الكلاب.

وهو عندما كان يتقدم، كان يظنّ أن الشارع الذي يمشي فيه لن يصل أبدًا إلى نهاية، وأنّ المباني وتلال الردم والقمامة حوله هي هي تتكرّر، وأنّه عالق في مساحة صغيرة محكومٌ عليه بإعادة المشي في بدايتها كلما انتهى إلى آخرها. لكنّ الكلاب كانت دليله لنفي هذا الخاطر، فهو إذا كان يعيد المشي على المساحة الصغيرة نفسها، لا بدّ للكلاب أن تعاود الظهور من ورائه وأن تقترب منه ومن ثمّ تتخطّاه من جديد. لكنّ هذا لم يكن يحدث. كانت الكلاب تتابع طريقها أمامه، وكان يلحقها بالإسراع قليلًا بعد أن يتاكّد أنها أسقطته من حساباتها ولم تعد تلتفت له. وهذا الفعل، أي بقاء الكلاب أمامه، تركه مع فكرة أخرى، أنّ العالم هذا مكوّن من جزيئات صغيرة تنتصب حوله وتتكرّر تواليًا في مساحة مفتوحة لا تنتهي. لكنّه لم يكن يفرغ من التفكير من هذه الفكرة حتى كانت الكلاب تختفي من دون أن يعرف كيف. وكان يقول في الحلم إنّه انشغل عن متابعتها بالتفكير، وإنها اختفَت في مكان ما لم يدركه لأنّه لم ينتبه، وأنّ عليه في المرة المقبلة التركيز أكثر.

لكنّ المشهد في الأحلام التالية كان يتكرر بالعناصر ذاتها: مبانٍ، ردم، نفايات، كلاب، ولا أثر للناس. وعلى الرغم من أنّه كان يشعر أنّ إحساسه كان يتغيّر من حلم لآخر، ولا يعرف لماذا كان يظنّ ذلك، فإنّ الأفكار والظنون داخل الأحلام كانت هي هي، واللحظة التي كان يفقد فيها الكلاب من دون أن يعرف إلى أين ذهبَت وينتهي بعدها الحلم، تعاود الحضور في النهاية من دون أي فارق يذكر.

كان يصحو بعد الأحلام ليجد نفسه في سريره. وينظر إلى جانبه ليجدها مستغرقة في النوم، كأنّ الزمن بقي عالقًا عند الليلة الماضية، وكأنّه لا يتخطى الأشياء، وكأنّ علاقته بها توقّفت عند حدّ يصعب تجاوزه. وكان في خضمّ تاويلاته هذه، يبقى في السرير، ويحاذر أن يتحرّك، ويكتفي بالنظر فيها، حتى يعتقد –تاليًا وتكرارًا- أنّ التبصّر فيها يُذهب حضور الحلم ويلتهمه، حتى ينساه بعد دقائق، وتهدأ دقات قلبه، ولا يعود غيرهما حاضراً في الغرفة.

وهو لم يكن يعرّف أحلامه ككوابيس، ولم يكن يصدر أي صوت، بدليل أنه كان يصحو وحده من دون أن تربّت هي –خفيفة النوم- على كتفه أو تسأله ما به. وعلى الرغم من أن تحول المدينة إلى شارع وحيد لا تتكرر فيه إلا المباني المهجورة والردم والنفايات يكفي مبدئيًا لإطلاق صفة الكابوس على المنام، لكنه لم يكن مقتنعًا. فبالنسبة إليه، الكابوس يختلف عن الحلم، ويمتد مع النائم عرقًا نفاثًا في السرير. وتسارع دقات القلب لا يكفي ليجعل الحلم كابوسًا، فهو مرتبط بالإثارة ليس إلا. وعلى الرغم من أن فكرته كانت تفتقد للتماسك فإنّ شيئًا ما في داخله كان يؤكّد له أنّ تعريفه على حقّ.

في الليلة التي سبقت تحقّق حلمه، أضاف خاتمة لم تكن موجودة في أحلامه السابقة. انتهى الحلم هذه المرّة، بعد اختفاء الكلاب، بمدى مفتوح لا شيء فيه: لا مباني ولا ردم ولا نفايات. ولسبب ما، فإن البقاء في ذلك المكان أشعره بالاختناق. وكان الشعور عنده يتعاظم، لكنّه لم يكن يملك قدرة التقدم أو التراجع أو الالتفات أو الخروج من العالم. وبقي واقفًا لزمن لا يعرف بالطبع قياسه حتى انتهى صاحيًا في سريره غارقًا في عرقه. ولم تسيطر عليه في اللحظة التالية لاستيقاظه إلا فكرة انتفاء تعريفه الأول. هذا كابوس، كان يقول. هذا كابوس.

وهو عندما التفت، فوجئ أنّها لم تكن نائمة قربه، وفكّر أن خلوّ المساحة بجانبه جزء من هذا التحول في حلمه الذي أفضى لفكرة إعادة التعريف. ولم يقطع وابل أفكاره المترافقة مع تنفسه المتسارع إلا الأصوات المنبعثة من الحمام، حيث كانت. وقبل أن تعود، قرّر أن يخلع ما كان يلبسه، وقام ليلتقط منشفة قريبة، ثمّ جفّف عرقه وعاد ليغيّر ملاءة السرير، ثمّ وضعها في الغسالة في المطبخ، ورجع ليفرد ملاءة جديدة بلون مشابه للأولى. ولمّا استمرّ صوت الدوش، جلس من جديد في السرير، والتقط مفكّرة كان يضعها في الدرج قربه، ويدوّن فيها أفكاراً تراوده من حين لآخر، وكتب:

مبانٍ – ردم – نفايات

نظر إلى الى الكلمات محاولًا إيجاد رابط بينها، ثمّ أضاف كلمة "أنا" إلى اليمين، وكلمة "الكلاب" إلى اليسار، وحوّقهما، وأعاد التحديق. لكنّ تفكيره طال، ولم يكن يصل إلى نتيجة، فأعاد المفكّرة إلى الدرج، عندما وجدها خارجة تبتسم من الحمّام.

في اليوم التالي، تابع البث المباشر في التلفاز، ورأى حلمه يتحقق. كانت النفايات تظهر تلالًا في الشوارع حتى تكاد تغرق بعضها، ففكّر أنّ هذه الخطوة الأولى من حلمه، وأّنه يتبقى له أن يرى الردم، وأن يختفي الناس، فتبقى المباني مهجورة. وبقي يفتّش في البثّ عن شارع الحلم لعلّه يراه، لكنّه لم يظهر. وفي غمرة التفتيش، شرد مفكرًا أنّ شيئًا ما في وجود المباني على النحو الذي في الحلم ما زال عليه أن يحدث، وأنّ الأمر لا يتعلق فقط بخلو المباني من الناس، بل بشيء آخر في المباني نفسها لا يقدر أن يحدده. شيء يتصل ويتكرّر ويتحوّل ويقول شيئًا.

وهي عندما لاحظت استغراقه في التفكير، سألته ما الأمر، فأشار للتلفاز وأجابها من دون أن يستفيض أنّ حلمه تحقّق، فضحكت وطلبت منه أن يحلم في المرة المقبلة في ربح اليانصيب مثلًا. جاراها في الضحك، ولم يفصح لها عن نظريته. لقد خسر الحلم لأنّه تحقّق، وهو أكيد أنّه لن يحلم به من جديد، وما يزعجه في هذا كله ليس الخسارة بقدر ما هو استمرار عدم فهمه للشيء الذي يعرف بوجوده ولا يعرف أن يحدّد ماهيّته، وما يفاقم انزعاجه أنّ الحلم عبر إلى هذا العالم من دون أن يكتسب أي إضافة أو يكتسي بأي معنى. ولأنه لم يفصح، ولأنّ مثل هذا النقاش لم يحدث بينهما، قرر أن ينهمك في نشاط بيتي يقتل الوقت والأفكار، ومنّى نفسه بالنوم في المساء قربها، آملاً أن يرى أحلامًا أخرى، سيحرص على تذكُّرها، وأن تتكرّر من دون أن تتحقّق. وبينما هو مشغول في ما يفعله، كانت هي قد عثرت على المفكرة وفتحتها عند الصفحة التي دوّن فيها، وأخذت تنظر إلى الكلمات الثلاثة محاطة بالدائرتين، وخيّل له عندما رفع رأسه وتلاقت نظراتهما، أنّها فهمت ما لم يستطع أن يفهمه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024