الفن المعاصر.. تراتبياته ولعناته

حسن الساحلي

الأربعاء 2019/02/27
يبدأ فيلم الرعب والتشويق "فيلفيت بازسو"، الذي صدر في "نتفليكس" منذ أيام، بمشهد داخل معرض Art Basel (ميامي)، الذي يعتبر الأضخم للفن المعاصر في الولايات المتحدة (وينظم أيضاً في مدينتي بازل السويسرية وهونغ كونغ الصينية). ويجمع المعرض سنوياً أبرز الغاليريهات والفنانين العاملين في المجال، ويعتبر قِبلة لجامعي الأعمال الفنية والتجار ومكان التقاء للعاملين في المجال من منسقين فنيين، مستشارين، وسطاء، نقاد، ومنظمي مزادات فنية، يعولون عليه لاكتشاف مواهب جديدة، ولتعزيز شبكات علاقاتهم التي تعتبر رأس مالهم الأهم إزاء التجار وجامعي اللوحات الأكثر نفوذاً داخل المجال.


يختار الفيلم ثلاث شخصيات من هذه الشبكة، هم مديرة غاليري، موظفة تعمل لديها كمساعدة، وناقد فني معروف تربطه علاقة وثيقة بهما. القصة تدور حول فنان متوفي يدعى "ديز"، تتمكن الموظفة المساعدة من وضع يدها على جميع أعماله الفنية التي كان قد أمر بتلفها في حال موته (بعدما قضى في شقته المجاورة لشقتها). تلعب كل من الشخصيات الثلاث أدواراً مختلفة في مسار دخول هذه الأعمال إلى السوق، وتكريس صاحبها إسماً جديداً في عالم الفن التشكيلي.

يتكفل الناقد المعروف (جيك جيلنهال) بإضفاء الشرعية على الفنان المكتشف حديثاً من خلال كتابة مقال في الموقع الذي يعمل فيه، ثم كتيّب للمعرض، قبل أن يقرر كتابة سيرة حياته وتقصي تاريخه الشخصي. صاحبة الغاليري (ريني روسو) تبدو الأقوى والأكثر دهاء، فهي التي تتولى البيع وترويج الأعمال وتؤدي عملياً دور المنسق الفني. تدعي المرأة أن المجموعة المعروضة نادرة جداً ولا أعمال أخرى للفنان غيرها، بينما تخفي عن الأنظار مجموعة أخرى لفترات لاحقة. أما الموظفة التي اكتشفت الأعمال (زاوي آشتون)، فتقوم مباشرة بتثبيت ملكيتها بالتعاون مع شركة محاماة، وتصبح المتحدثة بإسم الفنان إلى جانب صاحبة الغاليري التي تقدم لها النصح والمساعدة (في عالم "أكبر منها" وفق تعبير الأخيرة) وطبعاً تستعمل الموظفة رأسمالها الجديد من أجل الترقي في المجال والظهور أمام أعين الكاميرات والجمهور.


حبكة الفيلم بسيطة وتنتمي إلى حبكات أفلام الرعب الرخيصة التي ظهرت في الثمانينات، حيث تعود روح الفنان إلى الحياة للإنتقام من الذين عارضوا وصيته، وحولوا أملاكه إلى سلع درّت ملايين الدولارات عليهم، بينما عاش هو في فقر مدقع كل حياته. الإنتقام يأتي في البداية عن طريق تقمص لوحاته وشخوصها، فيبدأ بقتل أفراد شاركوا بشكل ثانوي في عمليات الشراء أو الوساطة، مثل المستشارة الفنية التي تعمل عند جامع لوحات يشتري عدداً من الأعمال بهدف إعارتها لمتحف من أجل تبييض صورته. تبدو هذه الشخصية أقرب إلى السمسار الذي يتعاطى مع المتاحف والغاليريهات كأنها سوبرماركت، من دون مراعاة القيمة التي يضفيها أفراد آخرون من الشبكة على الأعمال نفسها، مثل الناقد وفنانين آخرين، والذين جدوا فيها دفقاً شعورياً وحسياً "حقيقياً" غير موجود في الفن المعاصر اليوم (لعب الفيلم على التناقض بين الفن الحديث والمعاصر من خلال ثنائية العقل والقلب).

ينتقم الفنان من الشخصيات الرئيسة تدريجياً، بعد تحويل حياتهم إلى جحيم، ويبدأ لاحقاً بتقمص تجهيزات فنية وأعمال فيديو ليقتلهم بطرق مبتكرة وفنية! ربما الوحيدة التي لا تطاولها يد الإنتقام، هي موظفة الإستقبال، التي تقبع في أسفل الهرم. هي نموذج معروف في عالم الفن (تكون في العادة متخرجة حديثاً من الجامعة او فنانة صاعدة)، دائماً ما تعاني من تسلط الآخرين عليها وموقعها يكون عادةً في غاية الهشاشة. تستعمل هذه الموظفة أساليب مختلفة من أجل الترقي في الوسط، كالتجسس والوشاية لمصلحة الأعلى مرتبة، كما أنها تضطر عند الإستغناء عنها لإخبار صاحب غاليري منافس، معلومات عن الغاليري الذي كانت تعمل فيه مثل أسعار بعض اللوحات وأسماء مشترين لتأمين وظيفة محترمة عنده.

خلال الفيلم نكتشف قصة الفنان الحقيقية، من خلال شخصية المحقق الخاص الذي يوظفه صاحب غاليري منافس، وهي شخصية موجودة في الواقع، وتلعب دوراً مهماً أحياناً في القضاء على سمعة فنانين بهدف خفض أسهمهم في السوق وإضعاف موقع غاليريهات بمواجهة أخرى. القصة تقول إن "ديز" قد قضى جزءاً من حياته في دار أيتام، ثم في مصح عقلي بعدما قَتَل والده وعذَّبه لأيام، انتقاماً للقمع الذي تعرض له مع أفراد عائلته خلال طفولته، ما يبرر عنف المشاهد التي تصورها لوحاته والمعاناة التي يعيشها الأطفال الذين يظهرون فيها، وسط عالم مرعب لا يرحم (عند مسح اللوحات وأرشفتها في البداية، يظهر استعمال الفنان دمه كمكون أساسي للحصول على أفضل النتائج اللونية).

تتقاطع سيرة ديز مع قصص فنانين حقيقيين، منهم هنري دارغر (1892) الذي قضى فترة في مصح عقلي ويصفه كاتب سيرته (John Macgregor) بأنه لا يختلف من الناحية النفسية عن أي قاتل متسلسل، وهناك شكوك غير مثبتة تدور حول ضلوعه فعلياً في إحدى الجرائم. وجد دارغر ميتاً في شقته العام 1973 تاركاً وراءه مئات الرسوم، المخططات، الخرائط، ولوحات الكولاج التي تخبر قصصاً خرافية أبطالها أطفال يعيشون معاناة في عالم من الوحوش والحروب. طبعاً وجود فنانين مثل دارغر في تاريخ الفن، يعود الفضل فيه للثورة الفنية التي شهدتها العقود الأولى من القرن الماضي، حيث بدأ الإعتراف بفن الهواة والمصابين بأمراض نفسية حادة، مع نشر دراسات وأبحاث عن أعمال فنية مهمة خرجت من المستشفيات ومراكز العلاج. 

أما القصص الأخرى التي اقتبسها الفيلم من فنانين حقيقيين فنذكر منها مارك كوين وفينسنت كاستيغليا، اللذين عُرفا بالرسم بدمائهما، وكل من برونو آماديو وبيل ستونيهام اللذين أنتجا لوحات قيل أنها مسكونة بالأرواح. إحدى هذه اللوحات بعنوان "الطفل الباكي" (1950) لأماديو، اتهمتها صحيفة The Sun بتسبيب مجموعة حرائق في بريطانيا خلال الثمانينات وعنونت إحدى مقالاتها "لعنة الطفل الباكي الملتهبة"، حيث كانت بيوت بأكملها تحترق، وتبقى نسخ لوحات آماديو كما هي من دون أن يمسها أي ضرر (وهذا يعود غالباً لنوعية المواد التي كانت تطبع عليها).

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024