نظام يُعدم الموت

روجيه عوطة

الإثنين 2020/03/16
يقدم النظام العالمي نفسه خلال مكافحته، أو "حربه"، بحسب أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله، ضد الكورونا، على أساس أنه هو الحياة بعينها. ودليله على ذلك بسيط ومباشر: يعمد، وبالإرتكاز على علمه، إلى إبعاد الموت، طرده، وإلغائه. بالتالي، وبالإنطلاق من منطق هذا النظام، تكون الحياة مساوية لإزالة الموت. بالطبع، لا داعي للإشارة إلى أن الاعتقاد بأن الفيروس هو مجرد موت، ليس سوى ضرب من الخطل، لكن المهم هنا، أن تعريف الحياة بتلك الطريقة هو تعريف لا دقة فيه، إنما هو تعريف يودي إلى مكافحتها، وشن حرب عليها، أو إلى خطفها على الأقل، من أجل الحلول مكانها، واختزالها، لا سيما بمجموع من الإجراءات، التي تدعى "العيش".

الحياة ليست استئصالاً للموت، إنما هي القدرة عليه، بعبارة أخرى، لا تقوم بنفيه، إنما بإثباته، لكي يصير فصلاً من فصولها. فعندها، تصير قدرتها عليه مرادفة لقدرتها على عبوره، على المرور فيه، لتحويله إلى واقعة، أو إلى موقع ولادة أياً كان شكلها: هذه نهاية الجنازة. إلا أن قلب الحياة إلى كونها مجرد نقيض للموت، بحيث لا تستقر من دون إقصائه، فهذا، فعلياً، يشير إلى أنها تعرضت للإعتقال من قبل الذي أرادها على هذا النحو، والذي يريد أن يكونها: وهذه بغية النظام. ما هو هذا النظام الذي يعتقل الحياة، ويجعلها مجرد نفي للموت؟ إنه نظام العدم.

في الواقع، من الممكن توزيع  تلك الأطراف الثلاثة هكذا: هناك، من ناحية، العدم، ومن ناحية أخرى، الحياة والموت. نظام العدم، وكلما تقدم من الحياة، أي سيطر عليها، ينزعها عن الموت، يطيح بالصلة بينهما، لكيلا تصير ممكنة سوى بنفيه. فالحياة، مثلما ينتجها هذا النظام، هي حياة مسكونة بهاجس طرد الموت، بهاجس الخلاء منه، بهاجس أن تصير قريبة من كونها الجنة. غير أن الجنة مكان جحيمي بامتياز، بحيث أن كل الموت الذي شُيّدت بنفيه، ومثلما هو معلوم، يرجع، ورجوعه دوماً يستوي في أشكال أقسى مما كان عليها لحظة طرده. وهو لا يرجع لينتقم، لكن لأن رجوعه مردّه نزوعه إلى الحياة، ونزوع الحياة، إلى الصلة بها على وجه التحديد، وبهذا، لا يمكن عدّه موتاً. إنه، وحسبما علمنا ذات مرة، موريس بلانشو، مادة حية، مادة تواقة إلى أن تحيا أكثر فأكثر.

لكن توق هذه المادة لا يمكن سوى أن يصطدم بذلك النظام، نظام العدم، وهذا، لأنه يعتقل موضوع توقها أي الحياة نفسها. إذ إنه يقف حاجزاً بينهما، مانعاً تلاقيهما. غير أن المادة تتسلل، وتفتش عن الحياة، التي تناديها، تبحث عن أرجائها، عن علاماتها، لكي تمضي إليها، وتعقد الصلة معها، وخلال هذا، قد تصيب، وقد تميت. فيصح النظر إلى فيروس كورونا على انه هذه المادة، التي تقتفي آثار الحياة، والتي تجدها في أجسادنا، في الأجساد، الذي أرادها ذلك النظام كناية عن آلات، لا تكتسب مناعة من علاقتها مع الأدواء، بل تتصلح باستهلاك الأدوية. وما أن تجد المادة في هذه الأجساد حياتها، حتى ندفع الثمن. ليس ثمن لقائنا بها، إنما ثمن لا اعتيادنا على هذا اللقاء، أي، وباختصار، ثمن منعه من قبل.

عندما يطلب منا النظام أن نبقى في منازلنا، أن نتعقم باستمرار، فهو يجندنا في منع ذلك اللقاء، في مواصلة منعه، وفي ترسيخه. وبالتالي، يضعنا، وكدروع بشرية، في مواجهة تلك المادة، وحَرَساً على الحياة التي تنزع إليها، الا انها، ومع تخطيها لنا، تلتقي بحياتها، ليكون لقاؤها باتراً وصارماً. وهل هذا يعني أنه لا يجب الالتزام بقواعده، التي، وفي بعض الاحيان، تشبه التعويذات في إثر تلك المادة وشِدّتها؟ في الحقيقة، لا مناص من استبدال هذا الاستفهام الباطل بأسئلة أخرى: كيف نحرر الحياة من نظام العدم؟ كيف نبني الصلة بينها وبين الموت من جديد؟ كيف نجعل أجسادنا حية بلا أن تتوقف؟ أي جنازة للنظام إياه لا تكون النعوش فيها مملوءة بهذه الأجساد؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024