"مسار إجباري" لفرقة غنائية كانت مُستقلة

هشام أصلان

الخميس 2019/04/18
1
"انزل وشارك". لم يكن هناك أجمل من أن يأتي يوم يصبح فيه هذا الشعار "الإكليشيهي" دعوة ملائمة لنفض الكسل والشعور الفردي بمسؤولية اختيار المرء لما يريد أن يكون عليه الوطن، لاجئًا إلى صندوق الانتخابات أو الاستفتاء أو ما إلى ذلك، فلا يطاوله شعور التقصير إذا ما جاء المستقبل بما لا تشتهي نفسه. لم يكن هناك أجمل من أن تأتي الدعوة عبر فنانين قريبين من قلوب شابة أحبت ثورة يناير وصنعتها. لكننا نعيش اليوم ما أدركنا أنه تجلٍّ لانكسار الأحلام، وبريق لواقع غير الواقع الذي يروق لنا. نعرف أن من يُسمح لهم بالدعوة لمثل هذه الأشياء اليوم هُم مَن يحبون هذا الواقع القاسي علينا، أو حتى من اضطروا للاتساق معه. بينما مَن يكرهه تنتظره - إن نطق- لائحة اتهامات تكفي واحدة منها للقضاء على مساحة معقولة من مستقبله ومستقبل مَن يعيل.

من هنا كانت صدمة الكثيرين في صفحات التواصل الاجتماعي، مع مساهمة فريق "مسار إجباري" الغنائي في الدعوة لنزول المصريين والمشاركة في الاستفتاء على تغيير مواد دستورية تتيح لرئيس الجمهورية البقاء في منصبه مرحلة أطول، في دويتو غنائي مع المطرب الشعبي أحمد شيبة. أغنية لم تتوار، كما لم يتوار كل ما ينتمي إليه فن هذا الجيل، وعنونها الفريق بالإكليشيه: "انزل وشارك":
"آدي القلم وآدي الميزان وآدي الطريق، وانت الحكم وانت الفريق.. متحوشش صوتك، علي صوتك في الغنا، وانزل وشارك ده اللي شارك في البُنا مخسرش شيء".


2
في العام 2005، لما تأسست فرقة "مسار إجباري"، كان عاماً مميزاً. كان المناخ المصري في لحظة نضج وعلى وشك الفوران بمشاهدات جديدة. ملامح مميزة للحراك العام تبدو مقتربة المجيء. الكتابة الجديدة توّسع لنفسها مكانًا ملحوظًا في الساحة الأدبية، الصحافة الخارجة عن المألوف تنافس في اتساع التلقي، الفِرق المستقلة تجتهد بعيدًا عن السوق الكلاسيكية للإنتاج الغنائي، شباب النشاط السياسي بعروق لم تزل قوية، يلمع في عيونهم طموح اختفى من عيون آبائهم، تغيرات تقترب متخبطة في مطبخ السلطة، والمتلقي شاب وفتاة يأملان في انفتاح مجتمعي يصلح لشيء من البراح. وبينما النضال السياسي ليس شرطًا لحضور الفنان، كان سؤال التمرد مشتركًا رئيساً بين راسمي ملامح هذا الحراك العام، في لحظته الزمنية اللافتة. ووجدت "مسار إجباري" مقعدًا براقًا بين الفرق الغنائية المستقلة، أو ما أطلق عليه المهتمون: "فرق الآندر غراوند"، بموسيقى حديثة، وكلمات ترمي أحجارًا في المياه الراكدة.

3
عبر السنوات الخمس أو الست الماضية، التفتت الدولة المصرية إلى انتهاء مصداقية الإعلام الرسمي لدى المتلقي. أدركت أن برامج "التوك شو" لم تعد وحدها قادرة على التأثير في الرأي العام، وأن التسلل إلى الوعي الجديد يتطلب مراوغة أخرى. راحت تتدرج في التوغل إلى هذا المتلقي بمحاولات انسيابية في عدد من البرامج الإذاعية الناجحة يسمعها ملايين من سائقي السيارات، وفي أغانٍ دعوية لطيفة الألحان، يرقص عليها من ينتظرون أي ملامح للبهجة. تدريجيًا تتراجع الانسيابية، ويتجلى وضوح الصوت الواحد المسيطر على كل ما يتلقاه الجمهور، وتتردد بين دوائر النخبة شكاوى صُناع السينما والدراما والصحافة وغيرها من تضييق مساحة العمل، والكتابة بمقاسات محددة.

إدراكًا لعوامل كهذه، نادت أصوات كثيرة، من المهتمين في صفحات التواصل الاجتماعي، بخطاب يواجه خطاب الغاضبين من فريق "مسار إجباري"، ويطالب المصدومين أن يضعوا في اعتبارهم احتمالية أن تكون الأغنية انطلقت بتكليف غير رسمي لواحدة من الفرق ذات المصداقية لدى شريحة شابة لا يستهان بها. يطالبهم، أيضًا، أن يتذكروا ما يؤول إليه أمر من يرفض تكليفًا كهذا. وهذه فكرة دعَمَها منشور لهاني الدقاق، مطرب الفرقة في "فايسبوك"، أرفقه بصورة لابنته محدثًا إياها بكلمات عاطفية عن كيف أن خوفه على مستقبلها قد يدفعه لفعل ما لا يؤمن أو يقتنع به. أزاله بعدما انتشر، ليستنتج البعض أنه انتبه لكون هذا المنشور قد يعرضه لخطر ما.

هكذا يجد الواحد نفسه محتارًا في ما حدث. هل آلت فرقة "مسار إجباري" لما آل إليه كثيرون ممن تغيرت مواقفهم بقناعة أن ما يحدث هو أفضل تطورات الموقف؟ أم أن الأمر لا يتجاوز حدود القدرة على تحمُل العقاب؟ هل نعيش لحظة تصلح لمحاسبة الفنان كمسؤول عمّا يقدمه، بينما بات شبح العقاب السياسي أكبر وأكثر ترويعًا من إمكانية تجاهله؟ هل راهن الفريق الغنائي على إمساك العصا من المنتصف؟ على ذاكرة الجمهور الذي يشتمك لعمل ويمدحك لآخر؟ بصراحة، وبينما الحديث عن أي معايير أصبح عبثًا، لم تعد في نفس الواحد منا الجرأة الكافية لوضع إجابات، غير أن الكتابة في الأساس هي مهنة السؤال، وليست مهنة الإجابة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024