ليس رجلاً يريد السراي.. بل يريده بأي ثمن

أسعد قطّان

السبت 2020/10/10
كنت أتوقّع أن أرى رجلاً في مستوى ثورة 17 تشرين، التي أعلن أنّه استقال بسببها ومن أجلها؛ رجلاً لا يكتفي بالقول إنّه يتحمّل بعضاً من المسؤوليّة، بل يقول للناس كيف يحاسب نفسه على الأخطاء التي ارتكبها، وكيف يحوّل حسّه بالمسؤوليّة إلى أفكار سياسيّة خلاّقة. فوجدت رجلاً لا يقوم بأيّ مراجعة نقديّة حقيقيّة لمسيرته السياسيّة ولا يسمّي الأخطاء بأسمائها، بل يمعن في الضبابيّة حتّى حين يعترف بالمسؤوليّة مكتفياً بالقول إنّه سيتبنّى، إذا عاد، خطّةً اقتصاديّةً نزلت عليه بالمظلّة من قمّة برج إيفل. 

كنت أتوقّع أن أرى سياسيّاً فطم نفسه بعد 15 سنة من العمل السياسيّ، وتخطّى منطق العائلة والقبيلة. فوجدت رجلاً ما زال يقدّس ماضي عائلته، ويلتصق بالميثولوجيا المرسومة عن والده الشهيد. ثمّ يتباهى بأنّه يتكارم على الناس هنا وهناك، ويتناسى أنّه كان شريكاً في عدم بناء الدولة التي تصون كرامتهم وتوفّر عليهم ذلّ التسوّل وأن يتصدّق عليهم سياسيّون مثله بالفتات المتساقطة عن موائدهم.

كنت أتوقّع أن أرى رجلاً علّمته الأزمات كيف يحلّل مكامن الخلل في السلطة، ويفضح الاعتوارات، ولا يكتفي بالعموميّات، بل ينفذ إلى التفاصيل. فوجدت رجلاً يتلهّى بالمناكفات التي خاضها مع حلفائه في السياسة، ويعاتبهم على تخلّيهم عنه، ويتّهمهم بأنّهم أفسدوا عليه دسته. ثمّ يلاطف خصومه ويكاد يوفّرهم من أيّ نقد بنيويّ، لكونهم ظلّوا متشبثّين بعودته في أحلك الظروف، رغم أنّه يدرك مخاتلتهم ويعرف نواياهم المبيّتة ويلمّ بمتاهات المكر في خطابهم.

كنت أتوقّع أن أرى رجلاً يقرأ العلاقة وثيقة العرى بين الاقتصاد والسياسة، بين السلاح واحتمالات الضغط الممنهج على ضمائر الناس، بين المافيا التي تحتمي بالميليشيا لئلاّ تتهاوى، والميليشيا التي ترغّب المافيا تارةً وترهبها طوراً. فوجدت رجلاً يحسب أنّه يستطيع مداواة الاقتصاد من دون معالجة السياسة، ويعتقد أنّ في مقدوره إنقاذ السفينة الآخذة بالغرق من دون الإحاطة بطبيعة الثقوب التي تنخر جسم الخشب.

كنت أتوقّع أن أرى رجلاً يعترف بأنّه ما زال حتّى اليوم جزءاً من طغمة تتخاصم في ما بينها، لكنّها تتقاطع منذ 15 سنة على الاستباحة والتناهب وحماية الزعران والاستقواء بقطّاع الطرق. وكنت أتوقّع منه أن يشرح للناس كيف سيستطيع، إذا عاد، أن يتحرّر من هذه الحلقة الشيطانيّة المقفلة وأن يتحوّل إلى صوت للحقّ وسيّاف للعدل، وكيف سيبدأ بتطهير الدهاليز المحيطة به من عشرات المصرفيّين والمديرين العامّين والقضاة والموظّفين والحجّاب المحسوبين عليه، والذين استبدلوا منطق الدولة بمنطق غزل الحرير.

ربّما كنت ساذجاً وغبيّاً في معظم توقّعاتي. فثمّة أشياء يتعلّمها المرء. وثمّة أشياء تبقى عصيّةً على التعلّم لأنّها تحتاج إلى ما يتجاوز الحذاقة ويتخطّى الخبرة ويفوق التبصّر في أسباب الهزائم واستخلاص العبر. لكن لعلّي كنت مصيباً في توقّع واحد:

كنت أتوقّع أن أرى رجلاً يريد أن يعود إلى السراي الكبير، فوجدت رجلاً يريد أن يعود إلى السراي الكبير بأيّ ثمن. وإذا بخطاب الترفّع عن المنصب الذي صمّ به آذاننا طوال ما يقارب السنة يتحوّل إلى كومة من الترّهات والكلمات المثقوبة بالخواء.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024