الحرب اللبنانيّة: هل يعيد التاريخ نفسه؟

أسعد قطّان

الإثنين 2019/12/02
في التظاهرة النسائيّة التي سارت يوم السبت الماضي من التباريس إلى الخندق الغميق، حملت إحدى نساء لبنان يافطةً كُتب عليها: «التاريخ لن يعيد نفسه». ربّما يكون هذا الشعار من أجرأ الشعارات التي رُفعت خلال الانتفاضة التي ما زال اللبنانيّون واللبنانيّات يصنعونها منذ أكثر من أربعين يوماً.

«التاريخ لن يعيد نفسه»، هذا كلام خطير لأنّه ليس  كلاماً عن التاريخ، كما يبدو للوهلة الأولى، بل كلام عن المستقبل. وهو ليس تكهّنات عن المستقبل تشبه «توقّعات» ليلى عبد اللطيف وميشال حايك، بل هو مانيفستو ثوريّ يريد صنع مستقبل لبنان وتشكيله، ويعلن أنّ الحرب الأهليّة لن تتكرّر ثانية، وذلك في وطن يبدو تاريخه، على تعبير نائب الشعب نجاح واكيم، تراكماً من «الهدن» تؤسّس كلّ واحدة منها لحرب جديدة.


من راقب على مدى الأسابيع الماضية خطاب منتقدي الانتفاضة التي يصنعها اليوم شباب لبنان وبناته ببيارقهم المجنّحة وعيونهم اللامعة، لا بدّ من أنّه لاحظ الآتي: بالإضافة إلى نظريّة المؤامرة التي تجعل شعباً برمّته أسير خطّة سفير أميركيّ من هنا وعميل صهيونيّ من هناك، فإنّ أهمّ حجّة ضدّ الانتفاضة هي أنّ لبنان لن يتغيّر، وأنّ شعبه طائفيّ في «جيناته»، وأنّ هذا الشعب لو قيّض له اليوم أن ينتخب سينتخب الزعماء نفسهم والأحزاب ذاتها. الذين فشلوا في إدارة البلد، وشاركوا في تحويله إلى مزبلة، يريدوننا أن نصدّق جبريّتهم العمياء التي تحكم علينا بعدم قدرتنا على التغيّر. وهم يروّجون لنظريّة قوامها أنّ لبنان هذا جوهره: الطائفيّة جوهره، الحرب جوهره، الاستزلام والمحسوبيّة والمحاصصة جوهره، لا لشيء إلاّ لأنّ الانتفاضة فضحت فشلهم وعرّت خيبتهم.

لهؤلاء يأتي جواب هذه المرأة التي كانت تتشبّث بيافطاتها كأنّها تحمي حلم جيل بكامله من رذيلة الذين ما زالوا يتحكّمون بخبزنا ومياهنا وهوائنا: لا يا سادة، لن يعيد التاريخ نفسه. هذا ما أعلنته صبايا لبنان ونساؤه حين اخترقن خطّ التماس بين التباريس والخندق الغميق. هذا الخطّ الذي سقط من الخارطة بعد نهاية الحرب الوضعيّة أسقطته من النفوس قبل يومين إرادة الأنثى الجميلة عبر تظاهرة لاعنفيّة فذّة هي جزء من مداواة ذاكرة الحرب، التي حال أمراء الحرب دون حدوثها طيلة عقود.

«التاريخ لن يعيد نفسه» كلام عن المستقبل الذي يريد شباب لبنان وبناته أن يصنعوه معاً، عن حلمهم بانتخابات من خارج القيد الطائفيّ، بزواج مدنيّ اختياريّ، بمجتمع تعطي فيه النساء أولادهنّ الجنسيّة اللبنانيّة من خارج «الاستثناءات» التي فصّلها وزير الخارجيّة «المستقيل» على مقاس طموحاته السياسيّة وخوفه المزعوم على الوجود المسيحيّ، بوطن إنسانيّ في بحره وهوائه ومواصلاته وثقافته السياسيّة، وعن حلمهم بمدى مجتمعيّ مفتوح تنتزع نساؤه حرّيتهنّ بالقوّة من مخالب الوحش الذكوريّ الذي صنع الحرب وسمّم السلام.

«التاريخ لن يعيد نفسه» كلام يعلن أنّنا لسنا أسرى التاريخ، ولسنا أسرى الطائفيّة، ولسنا أدوات في أيّ مؤامرة خارجيّة سواء كانت حقيقيّة أو وهميّة. هذا هو الوطن الذي نريد أن يبزغ من «رحم الأحزان» كما كتب الدمشقيّ نزار قبّاني ذات يوم حين تغزّل ببيروت الجريحة. وهذا هو الوطن الذي بدأ يعمّره جيل الانتفاضة لبنةً لبنةً بالحناجر واليدين والعيون. عسى أن يكون لنا موعد غداً مع هذا الوطن الجميل ومع تاريخ لا يعيد نفسه، بل يجدّد ذاته كالنسر فيصبح وعداً جميلاً بمستقبل مشرق.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024