الفاتنات الروسيات: هيلين ريتمان التي خنقها ألتوسير

محمد حجيري

السبت 2017/08/12
كنا قد فتحنا ملف "الفاتنات الروسيات" ولم نكمله، والقصد بالفاتنات الروسيات اللواتي سحرن الأدباء والفلاسفة والشعراء. ومع الوقت نكتشف أسماء جديدة لها قصصها الغرائبية والمأسوية والفاتنة، ونقصد هنا بالتحديد هيلين ريتمان، زوجة الفيلسوف الفرنسي لويس ألتوسير، والقضية هنا أن هيلين لم تشتهر بفتنتها وألاعيبها، بل في مقتلها وتحته قصة أخرى.

كان ألتوسير، وهو ماركسي علمي من أصول كاثوليكية راديكالية، بتولاً في الثلاثين من عمره عندما قابل ذاتَ الثامنة والثلاثين هيليـن ريتمان. وهي يهودية ذات أصول روسية، مناضلة قديمة، طردت من صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي لأسباب لم تكشف عنها أبداً. الفيلسوف جون غيتون (1901 - 1999) أستاذ ألتوسير وصديقه، وصفها بـ"اللغز المطلق" تشبه الأم تريزا. وتنقل الكتابات المتابعة أن هيلين التي تكبر ألتوسير بسنوات، عرّفته على عوالم جنسية جديدة وجريئة، وهو ربما ما لم يكن مستعدًا له. بعد المرة الأولى، عانى ألتوسير من تشوّشٍ ذهني أدى به إلى كآبةٍ عميقة وتطَلبَ الأمرُ علاجًا بالصدمات وإدخاله المشفى. وبالرغم من هذه النُذر السيئة سلّم ألتوسير بالجنس كجانبٍ من حياته وتزوج هيليـن.

يقول أندرو شيفر في كتابه "فلاسفة فشلوا في الحب": "الحقُ أن هيليـن ربما كانت علّمت عشيقها أكثر مما يجب إلى حدّ أنه قد بدأ يخونها مع أخريات. تخلّلت زواجهما الشجارات العنيفة وتهديدات هيليـن بقتل نفسها كما أن افتقادهما لأصدقاء مقربين فاقمَ من مصائبهما. لا شيء من هذا كان عونًا لحالة ألتوسير الذهنية مما استلزم عدة تنويمات متكررة في المشفى وعلاجًاً نفسياً–تحليلياً مكثّـفاً". التقى ألتوسير بهيلين عندما كان طالباً. وتنمّ رسائله لها عن حبّه العميق والصادق لها. لكن يبدو بوضوح فيها أيضاً أنه عانى "تدريجياً" من حالات من "الجموح العصبي". بدت حياته "معلقة" بين حالات من العقل و"نوبات" من الهياج العصبي "الجنوني".

ويحكي ألتوسير في رسائله أنه ذات صباح من شهر يونيو/حزيران1971 رافق هيلين إلى محطة القطار حيث سافرت إلى إيطاليا. وقد كتب لها في رسالة بعد ثلاثة أيام من سفرها: "عند انطلاق القطار أحسست أنني بداخله وأحسست باهتزاز عجلاته الأولى (...) لقد وصلت برقيتك التي تعلمينني بها أن كل شيء على ما يرام (...). أنتظر رسالتك. أقبّلك بكل ما أملكه من حنان، وبلّغي تحيّاتي لكل ما نحبه في البندقية".

وفي رسالة تعود إلى العام 1961، وبعد أن يحكي ألتوسير ما فعله خلال يومه، يختم رسالته بالكلمات الآتية: "لماذا أروي لك هذا كله؟ لسبب بسيط هو أني أحب أن أحكي لك أشياء كثيرة وأنني أحبك بعمق، نعم بعمق، وسأكون سعيداً عندما تكونين أنت في عطلة أيضاً حيث سيكون بإمكاننا أن نلتقي كثيراً وطويلاً".

وبعد إحدى المشاجرات "المتكررة" كتب ألتوسير في رسالة تعود للعام 1958 ما مفاده: "لقد شجبتك من أجل سوء تصرفك ومن أجل طريقة ارتداء ملابسك وقاطعتك في الحديث أمام أهلك (...) ووبختك من أجل صلصة السلطة التي قمت بتحضيرها"، ثم يختتم رسالته بالقول: "أتمنى أن نذهب معا للتنزّه في الغابة يوم الأحد. فهذا سيجلب لنا بعض الصفاء".

في العام 1980 انهارت حياة لوي ألتوسير فجأة. ففي الساعات الأولى من صباح يوم أحـد هادئ، "وعن غير قصد"، أو عن طريق الخطأ، قتـلَ زوجته خنقاً. وحين قرع ألتوسير، صباح الأحد 16 نوفمبر1980، باب جاره في المسكن، طبيب مدرسة المعلمين العليا في باريس وهو يصيح: "لقد قتلت زوجتي"، لم يصدق الطبيب ولا زملاء الفيلسوف الذين يقطنون في المبنى نفسه، كما اعتقد بعض تلاميذه في أول الأمر أن الأستاذ تحت تأثير تخيلات وأوهام.

يكتبُ ألتوسير بوضوحٍ مُربك:
"كنت راكعاً بجانبها مائلاً على جسدها، أدلّك عنقها، واعتدت في كثير من الأحيان أن أدلك بصمت وراء عنقها وظهرها...
لكني هذه المرة كنت أدلك عنقها من الأمام.. 
كان وجه هيلين هادئاً وساكتاً. وكانت عيناها مفتوحتين وتحدقان في السقف.
فجأة مستني الرهبة.. حدقت عيناها في اللانهاية...".

أُودع ألتوسير محتجز "سانت ـ آن"، لكنه استفاد من الفصل 64 للقانون الجنائي الذي ينص على ما يلي: "لا جريمة ولا جنحة إذا كان المتهم يعاني حالة عته وقت ارتكابه الفعل". كان يخرج أحياناً إلى الشارع ليقول للمارة: "أنا ألتوسير العظيم". وهكذا عاش بقية حياته مترددًا بين المشافي حتى وفاته بعد ثمانية أعوامٍ من ذلك. بطريقةٍ ما كان قد وجدَ ما يكفي من الوقت وسلامة العقل ليتمّ سيرته الذاتية "المستقبل يدومُ إلى الأبد".

ما إن ذاع خبر القتل، وطيلة سنوات، أصبح ألتوسير عنوان حملة صحافية مكثفة تجمع بين اتهامات واهية وتأويلات نفسية افتقدت للجدية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024