السياسة وقد سقطت

روجيه عوطة

الإثنين 2019/10/28
كانت ثمة شكاية دائمة في ظل النظام، الذي سقط منذ أيام في لبنان، مفادها، وبعبارة من اللسان العام، أن "الناس تعبت من السياسة". فهذه "السياسة" تنتشر أينما كان حولهم، تحكم الصلات بينهم، تتغلغل في تصوراتهم عن بعضهم البعض، تدخل في تفاصيل يومياتهم، ولهذا، وفي لحظة ما، لحظة التفكر الذاتي، يتبرمون منها. لكن هذا التبرم لا يؤدي سوى إلى إعادة إنتاجها: تخفيف "التعب" منها بالحديث عنه، لكن بلا مده عليها لكي يطاولها. إذ لا بد من "السياسة"، وأي دعوة تتجاوز الاشارة إلى التعب في اثرها لتتناولها بالحث على وضعها جانبا، كانت تتعرض للتحقير.

فعلى كل شيء أن يقترن بهذه "السياسة"، وفي حال لم يقدم على ذلك، يُلازم خانة "الحماقة"، ولا ينتقل إلى خانة "الرشد". من يريد أن يثبت أنه صاحب "عقل" لا بد أن يتكلم في "السياسة". كما أنه، وإن أراد أن يثبت "قوته"، يفعل الأمر اياه. "السياسة" تجعله فاعل سلطة، تجعله ذَكَراً، وها هو بعد ذلك ينظر إلى النساء امامه في حين تكلمهم فيها على أساس أنهن لا يفقهن ماهيتها البتة. إذ إن "السياسة" للذكور. أما النساء، فعليهن إما السكوت، أو أن يشابهنهم حيالها. ببساطة، "السياسة" هي المدخل إلى النظام، التكلم بها، علامة على الإقامة الفعالة فيه.

وهكذا، من يبغي أن يكون في النظام لا مناص له من المرور في هذه "السياسة"، وهي، بداية، وطبعاً، علاقات قوة، مثلما انها تمثيلية متواصلة، يظهرها ويبثها التلفزيون، الذي صار يخصص لها رحاب برمجته. ولأنها كذلك، فهي كناية عن مجموع من المواقف الـ"معـ"ية والـ"ضد"ية. باختصار، هي مشهد متفاقم، يسد كل الفراغات بين سكان ذلك النظام. من ناحية، يمنعهم من التقارب، ومن ناحية أخرى، يحثهم على طقس الحوار الذي لا يودي إلى أي مكان، بل أنه يجمدهم في محلاتهم. فالحوار هو صلاة إلى "السياسة" لكي تبقي على سد الفراغ بينهم، على ضغطه، وتقديمه مرة كهوة لا بد من ردمها، ومرة كاستحالة لأي مشترك، وبهذا، تجعل كل العلاقات بينهم مرتكزة على القوة وفرضها.

عاشت "السياسة" على هذا المنوال في النظام اللبناني المنصرم، عاشت وطغت، وقد كان وسطها هو أعلى الأوساط، كما أن وسيطها، اي الشاشة الصغيرة، هو أعلى الوسائط. لهذا، رمت الأوساط والوسائط الاخرى إلى "التشبيك" بها، أو بالأحرى إلى أن "تشبك" معها، بحيث أن هذا يدخلها إلى النظام، يشعرها بفعالية ما فيه، مثلما أنه يذيعها أو يكفل رواجها. من هنا،  بين فترة واخرى، كانت تدرج في الثقافة والفن موضة "التسييس"، بحيث تشبك مؤسساتهما مع "السياسة"، أكان عبر عرض نشرات الاخبار في الأفلام بغاية إدراجها في "سياق سياسي"، أو عبر التشجيع على القص على أساس استحقاقات "سياسية" من خلال تظهيرها كواقعات، اي افتعال "السرد السياسي". وكل هذا بالتأكيد لا يحمل سوى إلى التموضع حسب ثنائية وسط "السياسة"، ثنائيته الآذارية، الممانعة واللاممانعة، وبمعنى آخر، أوج "التسييس" هو الالتزام بها، والعجز عن تعديها، وطبعا، العجز عن العيش بدونها، بحيث كل طرف يريد معاكسه، وفي الكثير من الأحيان، يصيره: اللاممانعة تغدو ممانعة، والممانعة تحمي اللاممانعة كأنها تحمي نفسها. الممانعة هي اول هذه الثنائية، هي محورها، واي تموضع فيها، يؤدي، في المحصلة، إليها.

لكن "السياسة"، وعلى اثر الثورة، سقطت. ذلك الشعار الشتائمي، الذي ردده المتظاهرون، والذي يثير امتعاض الدساس (politicard)، اي "كسخت السياسة، كسخت السياسة"، لا يشير سوى إلى أن "السياسة"، كنظامها، قد غدت وراء الثوار، اي انهم استطاعوا تخطيها، وتخطي ثنائيتها. فثورتهم هي ثورة عليها، ثورة على ذكوريتها، على علاقات قوتها، على "موقفيتها" الخالصة، على  تمثيلتها المتضخمة، اكانت البرلمانية، أو التلفزيونية، اي على جلساتها النيابية، أو على كل "توك شو" خاص بها.

ثم أن ثورة على"سياسة" النظام هي ثورة على انعدامها، وبالتالي، هي تخلق سياسة، لا تمر، وكما لا يتمنى كل دساس، عبر الخطاب "السياسي"، ولا بـ"التسييس" عبره. سياسة الثورة سياسة أخرى، تقوم بتدابير الخوض، بتدابير الإحداث: الكلام بدلاً من الحوار، الأفعال بدلاً من المقولات، الأجساد بدلاً من الصور، الخطوة بخطوة بدلاً من برنامج بقرارات معدة مسبقاً... التحرير بدلاً من التجميد. وعلى هذا النحو، السياسة هذه لا تسد فراغات بين الثوار، فتمنع تقاربهم، إنما العكس تماماً، بحيث أنها تفلتها بينهم لتكون مجال لانفتاح عواطفهم، نعم عواطفهم، على بعضها البعض. فاجتماعهم السياسي يبدأ عواطفياً، ثم، ومن بعد ذلك، يتحول إلى فضاء للتلاقي، وليس للتقاوي.

فتلك السلسلة البشرية التي جمعت الثوار من الجنوب إلى الشمال قالت ان الفراغات بينهم فلتت، ما عادت مسدودة، ولا مكتومة، وها قد مدوا ايديهم فيها، وها قد تقاربوا، وها قد شرع اجتماع آخر في الولادة. لقد انتهت "سياسة" النظام، التي كانت تعزلهم عن بعضهم البعض، وبدأت سياستهم، التي لا تتعبهم، بل تطلقهم. انها سياسة القدرة والخلق، وقد أطاحت سياسة القوة والاعتقال.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024