حلوان: مدينة القصور والسرايات والقرف

أحمد شوقي علي

الأحد 2015/08/16
كانت الحماسة أكبر من أن يحتملها الموقف؛ نقرأ في كتاب اللغة العربية نصاً يحمل عنوان "المقامة الحلوانية"، لبديع الزمان الهمذاني، ونحن في مراهقتنا في المرحلة الأولى من الثانوية العامة.. "يا الله رجل قادم من بلاد فارس يكتب عن مدينتنا حلوان، يخلد ذكر منتجعها الصحي في التاريخ الأدبي، كل ما سمعناه عن تاريخ المدينة الاستشفائي صحيح إذن". أو غير صحيح! خيب آمالنا مدرس اللغة العربية في مدرسة زهراء حلوان الثانوية - بنين، لمّا أخبرنا في مطلع الدرس ان "لا" ليست هذه حلواننا وأن في الكرة الأرضية عدة حلوانات أخرى، ولم يفلح بيت الشعر الذي أنشده لشوقي: "أحاولُ مالا أستطيعُ طِلابَهُ/كَذا النَّفسُ تَهوى غيرَ ما تملِكُ اليَدُ/إذا خَطرتْ من نَحوِ حُلوانَ نسمَة/نَزَتْ بَيْنَ قَلْبِي شُعْلَة  تَتَوَقَّدُ"، أن يعيد الحماسة إلينا، فنحن الجيل الذي ولد وتربى في "عصر مبارك" لم نبصر في مدينة حلوان –جنوب القاهرة- غير التلوث والقرف وبعض من حطام القصور القديمة في سيرة تتناقلها الجدات في ساعة من صفاء البال.

حلوان الحالية إذا نطقت، ستنطق مثل جدتي -التي ولدت وعاشت في نسختها القديمة، أو ما تبقى من "حلوان" الخديوي إسماعيل - إذا جاء يوم وأصابها الزهايمر لا قدر الله، فسألتنا "من نحن"؟ سيكون ذلك ليس لأنها لن تتذكرنا، لكن لأنها ستعود نفسياً حلوان الفتية الجميلة، بينما ستبصر عيناها واقع حلوان العجوز الشمطاء، فلن تتخيل إلا أنها تعيش في كابوس بين أناس غرباء.

حلوان التي عاشوها
حلوان واحدة من أقدم مدن مصر، وكانت في الأصل مدينة فرعونية وفيها أُنشئ أول سد مائي في التاريخ في منطقة وادي حوف، لكنها اندثرت عبر العصور.

أما اسم حلوان فقد أطلق –للمرة الأولى- علـى مدينتين إحداهما قديمة اختطها عبد العزيز بن مـروان العام (70هـ/ 689م) ويطلق عليها حاليًا اسم حلوان البلد، والثانية حديثة اختطها الخديوي إسماعيل العام (1291هـ/1874)م في باطن الجبل في الناحية الشرقية من حلوان البلد، وتبعد عنها ما يقارب ثلاثة كيلو مترات، ويطلق عليها اسم حلوان الحمّامات.

ففي عصر ولاية عبد العزيز بن مروان، دب في العاصمة الفسطاط وباء، فتركها في اتجاه الجنوب، فأعجبته حلوان فاتخذها عاصمة مؤقتة لولاية مصر وشيّد الدور والقصور وغرس فيها البساتين إلى أن توفي فيها فنُقل منها إلى الفسطاط عن طريق النيل، وفيها وُلد ابنه أمير المؤمنين الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز.

ثم أعاد عباس حلمي الأول اكتشاف المدينة، حين أصيب أحد جنوده بمرض جلدي فأغتسل من مياه الينابيع الكبريتية فشفي، وأخذ الجنود المرضى يتدافعون على الينابيع طلباً للشفاء فوصل الأمر إلى عباس باشا الأول، فأمر ببناء حمّام عند هذه الينابيع. ثم أنشأ الخديوى إسماعيل مدينة جديدة شرقي مدينة حلوان البلد، وبلغت حلوان شهرة عالمية العام 1868 حينما قام الخديوى بالبحث عن ينابيع حلوان، وعندما اكتشفها في السنة التالية شرع في بناء محلين أحدهما للمياه المعدنية، والثاني لوكاندة للسائحين والمرضى، وكان ذلك إيذاناً بصدور الأمر العالي بإنشاء حلوان الجديدة في باطن الجبل.

ازدهرت حلوان في عهد الخديوى توفيق، وقد شيّد فيها سراي زوجته أمينة هانم، والتي تشغلها حاليا المدرسة الثانوية التجارية، كما أنشأ فيها المسجد التوفيقي، والذي لا يزال في حالته الأصلية إلى الآن. وشيدت ابنته خديجـة هانم لنفسها قصراً في الناحية الشرقية من هذه المدينة، وهي من أهم الآثار التي لا تزال باقية في المدينة إلى جانب سراي على حيدر باشا، ومبنى الفندق الكبير، ومبنى الحمامات، وكنيسة العائلة المقدسة التي أنشأت العام 1888، ومرصد حلوان الذي شيد العام 1903، والحديقة اليابانية التي بناها المهندس المعماري ذو الفقار باشا العام 1919 على الطراز الآسيوي، لترمز لحضارات الشرق، ومتحف الشمع الذي شيده العام 1934 لكنه أغلق تماما منذ فترة قريبة.

حتى جاءت ثورة 23 يوليو، التي خططت لإنشاء أكبر مصانع البلد لإنتاج الأسلحة الحربية وكذلك الأسمنت والحديد، في محافظة حلوان في حيّي المعصرة والتبين، وذلك لقربهما من منابع استخراج خامتي الحديد والإسمنت، ليتحول الحيّان بعد ذلك إلى أكبر منابع التلوث في القاهرة. غير أن حي حلوان بات بعيدًا بعض الشيء عن التلوث نظرًا لعدم وجود مصانع في قلبه، لكن جاء عصر الانفتاح مع السادات، ثم عصر الاقتصاد الموازي مع مبارك، لتسقط حلوان في بئر يصعب أن تخرج منه أبدًا.

حلوان التي عشتُ
في عامي الخامس أصبتُ بمرض "حمو النيل"، وهو طفح جلدي أحمر اللون يظهر على الجسم في شهري (يوليو وأغسطس) على هيئة حبوب، فاقترحت خالتي أن تصطحبني إلى "عين حلوان" للاستشفاء بمياهها الكبريتية، وكانت "العين" في هيئة بئر قديمة تتوسطها أرض شبه خضراء يحيطها سور مسيج، بينما تخرج منها تفريعات صغيرة. طلبت مني خالتي أن أخلع ملابسي، ولأني لم أكن أرتدي تحتها غير لباس داخلي أبيض، احرجت من ذلك، لكني بعد أن رأيت الأطفال يسبحون في تفريعاتها عرايا من غير ساتر تشجعت، وما أن هممت في النزول حتى رأيت البراز طافيًا على الماء فأقسمت ألا أنزل إليها حتى وإن قتلني "حمو النيل".

لما خرجنا، رأيت أمام العين مبنى آخر، بنيانه أفضل منها، كتب فوقه "كازينو الواحة" –أزيل مع الايام-، فسألت خالتي عنه، فأخبرتني أنه مكان للسباحة، لكنه سيء لأنه يسمح للطلاب الهاربين من الصف في الدخول إليه، لكن ذلك الوصف لم يكن كافيًا بالنسبة لي لأقرر عدم دخوله أبدًا في المستقبل، فقط كرهته لأني تخيلت الطلاب في مسبحه وهم يسبحون بألبستهم الداخلية. وبعد بضع سنوات حسمت، بالطريقة نفسها، أمر ذهابي مع جيراني في المنطقة إلى كابريتاج حلوان، والذي صار مهجورًا الآن يغالب الإهمال والنسيان، وكان في سابق عهده -عندما افتتحه الخديوي عباس العام 1899- مركزًا عالميًا للطب الطبيعي والروماتيزم، وأحد أقدم الأماكن السياحية واشتهر بـ''نظافته وهدوئه وجوّه الخالي من الأتربة"، وكان به واحد من أكبر حمّامات السباحة في مصر.

في سن السادسة، التحقت بمدرسة حدائق حلوان الابتدائية، وكان التلفزيون المصري، الذي كنت أحفظ جدول عرضه عن ظهر قلب، يذيع فيلماً كوميدياً على القناة الأولى، الساعة الثانية من عصر كل الخميس، وكنت أنتهز قصر اليوم الدراسي كل خميس، لأهرول باكرًا إلى منزلي لأحضر الفيلم من بدايته. وفي أحد الأيام تأخرت قليلا في لعب الكرة مع زملائي، حتى أدركتنا الساعة الثانية، فانتبهت إلى موعد فيلم "عفريتة هانم" (فريد الأطرش وسامية جمال)، الذي قد يفوتني، فطلبت من زميل لي يسكن في جوار المدرسة أن أصعد إلى بيته لنشاهد الفيلم سويًا، وظللت طوال مدة عرضه مشدوهاً بأن جبل المقطم الذي أراه بوضوح من ناصية المترو يمكن أن يحتوي على مصباح علاء الدين الذي يحقق أي شيء. غير أن زميلي بدد أحلامي بغتة عندما أخبرني أن بطل الفيلم جاره..
فيلا فريد الأطرش في جوار المنزل!
يا سلام أنت كذاب..
هيا بنا إذن لأريك إياها.

نزلنا الدرج مسرعين وبعدما ابتعدنا عن منزله مقدار 100 متر، أراني حطام بيت تملأه الأخشاب، وقال هذه فيلا فريد الأطرش، كان الحطام يشبه منزلاً للرعب، عرفت بعد ذلك أن فريد الأطرش بنى فيللته ثم أدركه الموت قبل أن يسكنها، وانشغل شقيقه في ميراث الأسرة في الشام، فأهمل الفيلا فسَطا عليها حارسها وسرق محتوياتها ثم حولها إلى مستودع أخشاب لايزال حتى يومنا هذا.

ترتبط حياتي كلية بحلوان، ولدت في حدائق حلوان التي لم يبق من حدائقها غير الاسم، وذهبت طفلاً إلى مدرستها، ولما صرت مراهقاً انتقلت دراستي إلى وادي حوف، ثم إلى جامعة حلوان شابًا، وأنا في ذلك كله مشغول بالمدينة الخانقة وقرفها. في ميدان حلوان، الذي صار، بباعته الجوالين، أضيق من "خرم" الإبرة، في الهواء المحمل يوميًا بتراب الأسمنت، وبمخلفات مصنع سيجوارت التي أصابت عددًا كبيرًا من أبناء المنطقة بسرطان الرئة، ولم أعد ألقي بالاً لبقايا القصور أو تاريخ المدينة العريق.. حتى جاءت وفاة عمر الشريف، مع اندهاش الشارع المصري من خبر رحليه الذي يفيد بأنه مات في مستشفى بحلوان، وتناقلوا الخبر يبكون مصير الإهمال الذي وصل إليه الفنان في أيامه الأخيرة، مات في مستشفى بحلوان! هذا الحي الذي لا يعرفون من سيرته غير الصورة القائمة حالياً، وهم لا يدركون أن مستشفى "بهمن" التي توفى فيها الفنان الكبير، هيئتها أقرب إلى قصر فوق رابية عالية، في المنطقة الوحيدة التي ما زالت بعيدة عن التلوث في حلوان، وفيها جناح عالمي للطب النفسي وعلاج مرض ألزهايمر، ساعتها أدركت حجم المآساة التي تغرق فيها مدينتي التي عشت وربما أموت فيها.  
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024