حامد عبدالله: الشرق في مرايا الآخرين

شادي لويس

السبت 2018/05/26
"للمرة الأولى، نرى في "صالون القاهرة" وفداً من سكان حي المنيل بجلابيبهم الجديدة التي تتناسب وجلال الحدث، جاءوا ليشاهدوا صورهم معروضة أمام حشد كبير من الزوار"
(غابرييل بوكتور، مؤسس مجلة "صور" عن المعرض الأول للفنان حامد عبد الله في القاهرة عام 1938).

بعد أربعة أعوام من صدور الكتاب الأول عن الفنان المصري حامد عبد الله (1917- 1985)، باللغة الفرنسية، تحت عنوان "عين الروح"، شهد الأسبوع الماضي، حفلة تدشين كتاب آخر صادر عنه باللغة الإنكليزية، "الحروفية العربية"، مصحوباً بأول معرض فني له في المملكة المتحدة. فمنذ الذكرى الثلاثين لوفاته، العام 2014، والتي شهدت معارض لأعمال عبد الله في القاهرة والإسكندرية وبيروت، وتوجت باحتفالية في السفارة الفرنسية في القاهرة، فإن أعمال الفنان التي كانت منسية لوقت طويل، أصبحت محط اهتمام من متاحف الفنون الحديثة في العواصم الغربية وجامعي الأعمال الفنية، بالإضافة لقدر لا بأس به من الحماس الأكاديمي. ويبدو مدى ذلك الاهتمام جليا في محتوى الكتاب الجديد عن عبد الله، من تحرير المؤرخ الفني، مراد منتظمي، والذي لا يقتصر فقط على منتجه الفني، بل يركز بالأساس على أرشيفه الشخصي، والذي راكم فيه عبدالله بهوس ألوف من قصاصات الصحف والصور والرسائل والمقالات والملاحظات والمخططات الأولية.
 

فقصة الفنان الآتي من الصعيد المصري، وعمل فلاحاً مع والده في روضة المنيل، ولم ينل من التعليم سوى شهادة مدرسة الفنون والزخارف في "طرق الحديد"، جلب أهالي حيه الشعبي بجلاليبهم إلى "صالون القاهرة" الأرستقراطي ليشاهدوا صوراً رسمها لهم معلقة هناك، تبدو في عصاميتها، وصدمتها لنخبوية الفن المصري في الثلاثينات، جذابة بما يكفي. وفوق هذا، فرحلة الصعود الطبقي الاستثنائي، لعبدالله، وزواجه القصير بتلميذته، الفنانة التشكيلية تحية حليم، سليلة العائلة العسكرية المرتبطة بالقصر الملكي، ولاحقاً منافيه الاختيارية الطويلة منذ العام 1956 بين كوبنهاغن وباريس، كافية لنسج بعض من الدراما، وقدر لا بأس به من الأسطورية من حوله.

وبالإضافة إلى الجانب الشخصي، فإن الإنتاج الغزير لعبد الله، الذي بدأ من الواقعية والتأثيرية مروراً بالفطرية حتى انتهى إلى الحروفية، وانخرط في خضمه في مراحل متتابعة من التجريب على مستوى الأدوات والوسائط والخامة، يبدو شديد الثراء والتنوع بما يكفي لاعتباره بالفعل  من رواد الفنون التشكيلية الحديثة في مصر. لكن إعادة اكتشاف عبد الله، والاهتمام المفاجئ به، لا يبدو بالضرورة راجعاً إلى كل تلك الأسباب، بل ربما لدوافع تتعلق بطبيعة موجة آنية، من اهتمام المؤسسات الفنية بنمط معين من الفنون الحديثة من المنطقة العربية.

فعلى سبيل المثال، اعيد تسليط الضوء على المدرسة السوريالية المصرية في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي، وصدر عدد من الكتب عنها، باللغات الأوروبية، وجالت معارضها في المتاحف الغربية والعواصم الخليجية، في العامين الماضيين، وتشترك مع إنتاج عبد الله، في محتوى سياسي بعينه، يبدو مرغوباً أكاديميا ومؤسسياً، في الغرب، منذ مطلع الألفية. فخلافاً للمدارس الفنية "الوطنية"، في العالم العربي، والتي سعت لإنتاج فنون "أصيلة" تتمرد على التأثير الغربي والاستعماري، فإن أعمال عبد الله كما إنتاج مدرسة "الفن والحرية" السوريالية، كانت معنية بإقامة جدل بين الشرقي والغربي، لا مواجهة بين الاثنين، ولا مزج لهما. 

 
في حوار له مع صحيفة دنماركية، كان محررها قد عبر عن اندهاشه من إقامة الفنان المصري في كوبنهاغن، "يعلم الله من أين هبط هذا الرجل على هذه المدينة!"، ينصح عبد الله الجمهور الدنماركي بالحضور إلى معرضه، لكي يفهموا أنفسهم، لا لأنه يقدم أعمالا عنهم، بل لأنه "حين يريد المرء أن يرى نفسه، عليه أن ينظر خلال وسيط-مرآة، وعبر تقاليد الآخرين، حتى يفهم بالفعل ثقافته هو... فمعيشتي في الدنمارك جعلتني أدرك كم أنا عربي".

يعيد عبد الله اكتشاف عناصر ملهمة في الفنون الإسلامية، في إيطاليا، أثناء زيارته لصقلية، ويندلع هوس بالنوبة سيصاحبه معظم حياته، في باريس، وفي الدنمارك يعرض أعمالا تحمل نصوصا إنجيلية بالدنماركية في محاكاة لأعمال أخرى له استلهمت آيات قرآنية بالعربية، فيما يصرح أكثر من مرة بأن افتتاحية أنجيل يوحنا "في البدء كان الكلمة"، لا الفنون الإسلامية، هي مدخل فلسفته في "الحروفية"، أي استخدام الكلمات العربية كمادة وعناصر أولية لأعماله. 
لكن كل تلك المقابلات والمرايا، لا تعني مصالحة بين الشرقي والغربي، ولا سعي لدى عبد الله لحالة من التناغم بين الاثنين، فأعماله التي تركزت على لفظة "الحرب" منذ العدوان الثلاثي على مصر، ولاحقا "النكسة"، و"الهزيمة"، أكدت حالة صراع، لم تمنعه في أي حال من استعاره مخيلة "الباوهوس" مثلا لإنتاج تصوره الخاص عن "الشعبي" في مصر، أو أن يكون الإلهام وراء سلسلة لوحاته المعنونة "ثورة" هي انتفاضة 1968 الفرنسية.
 

تكشف سيرة عبد الله، وبالأخص في باريس، ترجمته لقناعاته تلك، إلى نضال فني مباشر، تعاون فيه مع عدد من فناني "العالم الثالث"، لم يقتصر على موضوعات أعماله، بل أيضا على مساهمته في معارض ومزادات مخصصة لدعم القضية الفلسطينية، في الوقت نفسه الذي كانت تستضيف فيه باريس مزادات لصالح دعم إسرائيل.

يبدو حامد عبد الله نموذج مثالياً، لإشباع اهتمام موجة أكاديمية ومؤسسية مهيمنة منذ مطلع الألفية، تهتم بالبعد الهوياتي والكوزموبوليتاني في الفنون، وبالأخص إنتاج فناني العالم الثالث، ومعنية بحالة التوتر التي صبغت إنتاج وتنظيرات فناني المنطقة العربية، وعمليات بالشد والجذب في أعمالهم بين الشرقي والغربي، والفني في مقابل السياسي، والإبداعي أمام النضالي.

وفي الوقت الذي يعود فيه الفضل لتلك الموجة في إعادة اكتشاف تراث فني لطالما نُسي، إلا أنها عبر تركيزها على الإيديولوجي المباشر على حساب الجمالي، ربما تعمينا عن رؤية ما هو أبعد من السياسي في الأعمال التي تتصدى لها، كما تقف وراء إغفال فروع أخرى من مواريثنا الفنية، الأقل تسييساً، وربما الأكثر ثراء في جمالياتها. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024