كورونا وإيتالو كالفينو والقراءة

نزار آغري

الثلاثاء 2020/04/14
كما لو أن إيتالو كالفينو كان يعرف أن يوماً سيأتي فنجد أنفسنا متروكين لأمرنا أمام كم هائل من الوقت لا نعرف كيف نتعامل معه.
يبدو كما لو أنه جهز لهذا اليوم شرحاً مسهباً في ما يتعلق بالقراءة حين نعلق في مصيدة العزلة. هذا الشارح نجده في الفصل الأول من روايته "لو أن مسافراً في ليلة شتاء".
يخاطب كالفينو القارئ بشكل مباشر. يخبره بأنه على وشك قراءة نص روائي.

لكن النص الذي سيقرأه ليس أي نص، بل بالضبط ذاك الذي كتبه كالفينو نفسه ونشره تواً.
يتوجه كالفينو إلى القارئ توجه صديق لصديق. مثلما يحدث الآن، هناك جو خاص، حالة استثنائية: القارئ في البيت، على وشك أن يبدأ القراءة وكالفينو يتكلم معه، ليس عبر الواتس أب أو السناب تشات أو الفيسبوك، بل عبر صفحات الكتاب.

يحاول أن يوصل أفكاره في ما بتعلق بطقس القراءة، أو لنقل أنه يريد أن يمنح القارئ عصارة خبرته في هذا الباب. 

يطلب منه أن يكون في وضع مريح، هادئ، غير قلق. أن يبدد أية أفكار أو وساوس من رأسه. أن يستعد كي يركز كل انتباهه على الكتاب الذي سوف يشرع في قراءته الآن.

الأفضل له أن يغلق الباب كي لا يصل صوت التلفزيون الذي شغله الأولاد في الصالون. يطلب منه أن يقول لهم، اي للأولاد، أنه لا يريد التفرج على التلفزيون. ماذا هناك أصلاً، في حال كهذا، أقصد في حال الوباء، سوى الأخبار المكررة، المرعبة، عن المرضى والقتلى؟ ما فائدة أن يملأ نظره بمشاهد مخيفة للموتى ويحشو رأسه بأرقام القتلى؟ هل في وسعه أن يفعل شيئاً، أي شيء، للوقوف في وجه الوباء والحيلولة دون انتشاره؟ لا. إذن عليه التركيز على صفحات الكتاب.

لا بد من اتخاذ وضعية مناسبة للقراءة. 
الجلوس؟ التمدد؟ الانبطاح؟
أن يستلقي على بطنه؟ على جنبه؟ على ظهره ويرفع الكتاب أمام عينيه؟
يجب عليه أن ينتقي المكان الذي يرتاح فيه حين يقرأ. أين يمكن أن يرتاح أكثر؟ على الأريكة؟ على الكنبة؟ على كرسي هزاز؟ على وسادة؟ على السرير أو، بالأحرى، داخل السرير؟ بل حتى يمكنه، إن كان هذا يريحه، أن يقف على يديه، في وضعية اليوغا، ويحمل الكتاب، مقلوباً، أمام عينيه.

يمكن له، إن أراد، أن يمد ساقيه ويضع قدميه على وسادة، أو وسادتين موضوعتين فوق بعضهما بعضاً، أو أن يضعهما، أي قدميه، على مسند الصوفا أو راحة الكنبة أو منضدة الشاي أو البيانو أو مجسم الكرة الأرضية.

ينبغي، قبل الشروع في القراءة، ضبط الضوء، لأنه إن انهمك في القراءة فلن يزحزحه أي شيء. يجب ألا يكون الضوء قوياً إلى حد يؤذي العينين أو ضعيفاً فيجهدهما. لا بد من التأكد من أن لا ظلال تقع على الصفحة وتبهم الحروف وتجعلها أشبه بقطيع متداخل من الجرذان.
ينبغي التيقن من أن لا شيء يمكن أن ينهض فينغص عليه القراءة. إذا كان يشعر بحاجة للذهاب إلى الحمام فعليه أن يفعل ذلك الآن بلا إبطاء.

يقدّم كالفينو هذه النصائح، كي يدفع القارئ إلى تهيئة الجو المناسب للقراءة. وهو حريص على فعل ذلك لأن الأمر يتعلق بكتابه، أي الرواية التي كتبها ونشرها تواً.

هو يخاطب القارئ بالقول: "أنت كنت قد قرأت في إحدى الصحف خبراً عن صدور رواية "لو أن مسافراً في ليلة شتاء" لإيتالو كالفينو الذي لم ينشر عملاً منذ سنوات. ذهبت إلى المكتبة واشتريت الكتاب. حسناً فعلت".

حسناً. لكن ماذا بعد أن يفرغ من قراءة الرواية؟ هناك فسحة هائلة من الوقت، مثل الوقت الذي تبرع به فيروس الكورونا للناس. ماذا نفعل بالوقت حين ننتهي من الرواية؟

يتوجه كالفينو بالكلام إلى قارئ الكتب حصراً. الكتب لا تنتهي. لا فائض من الوقت للقاريء الحقيقي، أي القاريء الذي ينهض عالمه على أعمدة القراءة.

هناك الكتب التي تنتظر:
الكتب التي كان القارئ يخطط لقراءتها منذ زمن ولم يكن الوقت يسعفه.
الكتب التي كان يبحث عنها منذ سنين.
الكتب التي تتعلق بأشياء يشتغل عليها وجاء الوقت المناسب لتصفحها الآن.
الكتب التي يمكن أن يبقيها لديه للأيام المقبلة.

الكتب الجديدة التي تبث الرعشة في كيانه وتخلق عنده فضولاً لا تفسير له.
كتب قديمة. كتب جديدة. في آن معاً. في الكتب الجديدة نبحث عما هو غير جديد وفي غير الجديدة نبحث عما هو جديد.

الكتاب الذي سيقرأه، أي رواية كالفينو، جديد. "مازال طازجاً". سينال القارئ متعتين في وقت واحد: متعة الكتاب ومتعة الجديد. لكل كتاب متعة ولكل جديد متعة.
ما العمل الآن؟

التصفح. تقليب الكتاب. التحديق في العنوان. في الرسم. في شكل الحروف. تمرير اليد على الغلاف. تفحص الصفحات بمعاينة سريعة بحيث فتتدفق الصفحات مثل رشقة طلقات، من الصفحة الأولى حتى الأخيرة. 

ستعلق كلمة أو جملة أو اسم شخصية أو مكان في الذهن. هذه تدريبات التحمية للانقضاض على الوليمة. دوران حولها. تلمسها، تشممها، تحسس جوانبها.

قبل الغوص في جوف الكتاب لا بد من الركض إلى الغلاف الخلفي وقراءة الملخص القصير عن مضمون الكتاب وربما لمحة عن الكاتب. بل قد تكون هناك صورته أيضاً. صورة كالفينو نفسه. كل هذا يمنح القارئ غبطة وشوقاً ويقوي عنده الاندفاع للقراءة.

كل شيء مهيأ الآن. الغرفة، الصمت، السكون، الرهبة، الرغبة، الفضول، ولكن أكثر من أي شيء آخر: الوقت. الوقت كله ملك اليد فلنرتشفه كما يحلو لنا. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024