لماذا لا يخشى السوريون الكورونا؟

أدهم حنا

الخميس 2020/03/12
لعل أفضل ما حصل عليه السوريون في خلال أعوام ثورتهم ومآلاتها، ليُظهروا شخصيتهم المتحدية، هي المنخفضات الجوية شديدة البرودة، والآن الكورونا. فقد ظهرت الذات السورية وهي تُعبّر عن دواخلها وآرائها ومخاوفها في تحدٍ وحيد يَظهر في الداخل السوري لما هُم فيه. لا النظام الاجتماعي المهُيمن، ولا السلطة السياسية المتحكمة، بل الطبيعة، أقدارها ومآلات الحياة على هذه الأرض تصلح للتحدي والمعاندة والنقد. الضعف العالمي في مواجهة كورونا عملياً، على مستوى العالم، جعل السوريين مبالغين في التعبير عن ذواتهم في مواجهة الطبيعة، فشعروا بأنهم يتساوون مع مواطني عالم ينتمون إليهم.

عموماً يخضع الظهور السوري في وسائل التواصل الاجتماعي، لمقدار عالٍ من السخرية. السوريون عموماً يميلون إلى السخرية، كإهانة لأنفسهم في الدرجة أولى، وتالياً لمجتمعاتهم، وثالثاً للقَدَر، بوصف المستهدفين بهذه الإهانات متاحين للنقد والتندر والندب من دون عقوبة السلطة. وتمظهر القدر يبدو في الغالب: الطبيعة، وبعدها: الحكومة، لا النظام السياسي، ولا الراعي بالمعنى الحرفي للكلمة، أي الرئيس القائد لكل شيء والذي ينفصل عن الحكومة ما أن تبدو البلاد مثار سخرية ونقد وابتذال. فتبدو الحكومة شيئاً آخر، وضمن المتاح للقول والسخرية والتندر.

تبيئة كلمة الحكومة منذ استخدام غوار الطوشة لها على مستوى الدعابة النقدية، الدعابة المبتذلة، الساذجة البلهاء، مستعيناً بُكتّاب النصوص المسرحية والنقدية الصحافية وغيرها، في الخمسينيات والأربعينيات الذين وجهوا انتقاداتهم للحكومة بوصفها حكومة فرنسا إبان الاستعمار ومراحل الاستقلال المبكر. هذه التبيئة المتاحة أمنت لها السلطة مسرحيات هزلية تتوالى منذ حكم الأسد الأب، وصولاً للابن، لتكون دلالة على نقد لا يستأهل ذكره كمثالٍ حتى.

في مواجهة الكورونا، بدا الراعي بشار الأسد مشغولاً، وضئيلاً في الوقت نفسه، كان صوت الحرب أكثر وضوحاً. الراعي الأسد، المطلق الخالق، لا ينشغل بعقاب الطبيعة لأجساد تحيا معها. أما الحكومة فلا تملك أي قدرات لوجستية لمواجهة أي وباء يتفشى داخل بلاد أنهكتها الحرب. ثم أن طارئاً قد حل على السوريين وبدا مهيباً لحيواتهم فتفاعلوا معه بحرية تامة. كان النظام أسرع في جعل حكومته مسرحية للسخرية. فانتشر مقطع فيديو يظهر فيه الواصلون إلى مطار دمشق، وهم أقل انشغالاً وأكثر بؤساً من أي خوف يصيب إنساناً محاطاً بخوف فيروس ينتشر عالمياً. ويخضعون من دون أي قناعة ظاهرة في وجوههم، لفحص طبي سطحي وهزلي ومسرحي. كان هذا الفيديو انتقاماً للسوريين في الداخل من حياتهم، تفننوا في الكتابة والسخرية عنه كخلق درامي كوميدي لم يتوقف حتى هذه اللحظة. الملاحظة أن النظام لم يمانع هذا ابداً، بل إن الكاميرا التي صُوّر بها الفيديو تبدو رديئة، والسينوغراف رديء وكئيب، إشارة إلى حسٍّ يُرتجى فهمه، في أن كل شيء يبدو عتيماً وقاتماً ومعزولاً. القِدمُ والاتساخ والفوضى في المشهد، عالمُ السوريين الراضين الواثقين الذين لا يصدقون شيئاً من خوف النظام عليهم. وفي مقطع الفيديو لم ينظر أي من المستهدفين في الفحص، للطبيب، بوصفه طبيباً، ولم يحترم أحدٌ منهم يديه المرفوعتين باتجاه رؤوسهم. تسارع الخطى نحو الداخل، نحو الشقاء الأكبر من وعي المستهدف بوجود فيروس من عدمه. هذه المسرحية نالت ما يستحقها من السخرية.


لم يخشَ السوريون الكورونا، هناك بلاهة مجتمعية عامة سببها ما زرعه النظام في مواطنيه. ما يسميه فرويد "الاضطراب التكراري" في الاعتياد الجمعي على تحطم روابط غريزة الحياة في الإنسان وروابطه الاجتماعية، وفي الوعي الجمعي أيضاً، تحقق في سوريا. فدرجات العقاب الذي مورس ضد الأجساد والقتل العشوائي والمُمنهج، جعل السوريين يواجهون الكورونا كدعابة سمجة، من رعاة الطبيعة المجهولين، وليس كخوف كوني، أو كمعنى احتجاجي لحماية الحياة وغرائزها. عنف النظام على الأجساد، والحيوات السورية شبيهة بتجربة الدكتور كوفمان الألماني، الذي طبق برنامج صعق كهربائي على المرضى النفسيين المصدومين من أهوال الحرب العالمية الثانية، لكي يقوم الصعق الكهربائي وآلامه، مقام مشاهد الحرب ومخاوفها وأحزانها لدى الجنود. للنظام باع في هذا، فيبدو كل شيء سهلاً ومتاحاً ومقبولاً، طالما أن النظام لا يُدخل الفرد في تجربة التربية العقابية المتحكمة في الكرامة والحياة. وما الخطأ في أن يكون الدكتور بشار مساوياً للدكتور فوكمان؟

وتخفي الحكومة بسذاجة بيانات المرضى المُصابين، ليس خوفاً من هلع جماهيري، فحتى نوازع الهلع عند السكان تبقى تحت تصرف النظام الأمني، لكن الكورونا ثقل لا يحتاجه الراعي الأسدي. فخزعبلات روحية منطوقة قد تصدر عنه، كافية لإبعاد الفيروس عن ملايين السوريين، مثل جملة تتكرر قالها الأسد جراء طرده وجيشه من لبنان: "سوريا الله حاميها"، أو أن يدفع جمهرة من المؤسسة الدينية لزيارته وتزيينه بحجابٍ ديني ضد الكورونا. المهم أن الراعي بخير. والراعي، بالمعنى الكُلّي الإلهي، سيبقى السوريين عائمين على مزاحهم وموتهم.

الأفضل من هذا كله هو استمتاعهم التعبيري داخل حلقة الندب والسخرية والحزن، لسوء المآل في وجه الطبيعة والكون. هذه الإتاحة مُريحة أكثر من مسلسل درامي ناقد، أو حفلة سخرية سياسية. لكن، حتى الانتفاضة على الله والطبيعة، قد لا تجدي نفعاً، على السوريين أن يكونوا أصحاء رغماً عنهم. إنه التأديب.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024