لغة لقمان

روجيه عوطة

الجمعة 2021/02/05
عندما قرأت للمرة الأولى من مكتوب لقمان سليم، قلت سريعاً أن هذه هي اللغة الذي أحب قراءتها أينما كان. فعلياً، الوقوع على لغة سليم هو وقوع على عين ماء في مكان متصحر، وصفته هذه مردها أمر أساس، وهو أن الكلمات، وما أن تنبت أو تنزل داخل هذا المكان، حتى تفقد كل معانيها، وتصير مجرد ألفاظ من هواء جاف. لقد كانت لغة سليم عين الماء تلك، كما كان هو، وبمواظبته على هذه اللغة، يحض على التمسك بها على الرغم من وسمها دوماً بالعوصاء أو المجهولة.

حين يطلق القاتل المعروف رصاصه على سليم، مغتالاً اياه، فهو يقضي على تلك العين، وبهذا، يصحر الصحراء أكثر فأكثر. وخلال هذا كله، يبين أن اللغة أيضاً، بل أساساً، هي من سبل المواجهة، فالمضي الى بلورتها أو صقلها أو اكتشاف تضاريسها ليس مجرد أمر تشكيلي عابر، إنما هو فعل استطيقي رئيسي. فأن تصير اللغة، وفي اثره، جميلة، لا يعني أن تغدو مُعدة لاستهلاكها كيفما اتفق، لكنها تصير عائقاً أمام هذا الاستهلاك، بحيث تشير الى أن هناك، وفي وقت التطاير الكلماتي من المدرسة الى المعرض، كلمات مركزة، دلالاتها بعيدة وقريبة على حد سواء. فلها جذور، وتواريخ، ولا تحتاج الى كهنة، أو إلى شرطة، أو الى أي نوع من الحراس الحمقى، لكي تكون كما تكون.

أتخيل سليم بعد الحرب بصحبة شقيقته رشا، في حين انطلاقهما في مغامراتهما الثقافية على اللغة ذاتها. فلم يكن للغة عندها سوى أن ترتفع عين ماء في الصحراء اللبنانية، وأن تبدو، وعلى جمالها، ما يفترق عن كل الرداءة، وأن تتقدم، وعلى صعوبتها، كأنها تولي همها لإطاحة دعاية أن كل شيء سيكون سهلاً، و"ولا يهمك". فقد كانت، ومن بعدها الاستطيقي، تؤكد، من ناحية، على أن ثمة شيئاً راسخاً، أو يسعى إلى أن يكون كذلك. مثلما أنها، ومن ناحية أخرى، تؤكد على سخريتها من كل مشروع يرمي الى سيطرته، أكان يعد بالمستقبل أو يهدد بالقوة. لم تكن هذه اللغة مألوفة على أي مشروع، كانت هكذا في الصحراء، تنطق، وتسحر، وتصمت، وتشع كجدال مرات، وكمونولوغ مرات، وكجسم حي في كل الأحيان.

آخر ما قرأت من هذه اللغة هو ذاك البيان الذي كتبه سليم عمّن سماهم "خفافيش" سعت، "وبين الظلمة والظلمة"، لتهديده وإرهابه. فقد بدت هذه "الخفافيش" أنها، ومهما جعلت من أمرها أمراً واقعاً، ففي مقابل لغة الـ"قصيرة من طويلة"، هي فعلاً على وهن، لا تستر عليه سوى بالتخوين و"التعميل". ووهنها هذا يتعلق بكونها ليست أمام لغة توجه إصبعها صوبها بعد أن تعمد الى تخويفها، بل أنها أمام لغة تفعل كل هذا من دون أن يلزمها وضع إمكان من إمكاناتها جانباً. فـ"الخفافيش"، ولما تتلقاها، تجد أن تخويفها كان بلا طائل، فلم تفقد اللغة، وفي نتيجته، بلاغتها، بل أن هذه اللغة ردت بها عليه. لقد كانت عين ماء، ثم درعاً، وفي النهاية، ما عادت "الخفافيش" تتحملها، فقتلت من كان فيها برصاصات الكتم... وصارت الصحراء أكثر من صحراء.

 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024