كرة القدم الدنيئة (1-2)

أحمد شوقي علي

الإثنين 2018/06/04

أشعر بالاندهاش مع كل مرة أقرأ فيها عنوانًا من قبيل "المثقفون وكرة القدم". ليس ثمة نخبة بين جماهير الكرة، حتى وإن كان كاتبًا عظيمًا مثل ماركيز واحدًا منهم، هناك فقط –ودائمًا- لعبة ومشجعون.

أعرف أن الانتلجنسيا (المثقفون مفردة غير دقيقة في المجمل) تهتم بالتعليق على أخبار كرة القدم، وعناوين (رصينة) مثل تلك التي تعتبر اهتمام أحد المبدعين باللعبة أعجوبة تستحق التسجيل، واحدة من جرائرها (نشاطها الروتيني)، أو بشكل أدق، نشاطًا روتينيًا يخص فريقها الثاني، فالانتلجنسيا منقسمة إلى فريقين (وذلك أمر ينفطر له القلب حزنًا)، أول (وهو الأكثر حظًا) يراها مجرد كرة من الجلد (هذه أيضًا غير دقيقة، فبعضهم يرونها بالونًا منتفخًا) ترفسها مجموعة من الأميين، يعضُّ بعضهم بعضًا في الطريق إلى المرمى، بينما يشاهدهم قطيع من المغيبين، وثان (تعس في الأغلب) لا يعرف عنها الكثير، لكنه يجد في متابعة أخبارها فرصة ليثبت انحيازه إلى هؤلاء المغيبين (الجماهير)، معلنًا أنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا ينعزل في برج من العاج، ولأن كرة القدم غدارة، يتفوق الفريق المحظوظ على التعيس (لأن الثاني غالبًا ما يرتبك في مثل هذه المواقف)، عندما تشهد اللعبة أي حادثة تكشف عن وجهها القبيح.

مارست كرة القدم في طفولتي وحتى مراهقتي، وكدت أصبح حارس مرمى لامع لولا أن والدي منعني من الاستمرار في اللعبة (بديهة لا تحتاج إلى إثبات)، فصرت أتابعها كمشجع (وهذا الوصف ليس محاولة للتمسح في ماركيز وإنما للتنصل من الانتلجنسيا)، وبالرغم من أنني لست مخلصًا -بما يكفي- في تشجيعها، إلا أنني انشغلت بمتعتها عن رؤية وجهها القبيح.

لكرة القدم وجه قبيح جدًا، وأي استمرار في التهكم أو السخرية (خفيفة الظل) عند التعرض له، سذاجة أكثر حماقة من محاولة رصد ظاهرة المثقف الأعجوبة عاشق كرة القدم.

أي فخر يمكن أن يجنيه المرء من الاحتفاء بانضمام الهداف الأرجنتيني مونتي كارلوس إلى صفوف فريق "يوفنتوس" الإيطالي أو ارتداء قميص منتخب الأتسوري، بعد أن بعثت إليه المافيا الإيطالية تهديدات بالقتل، في أثناء انعقاد النسخة الأولى من كأس العالم 1930؟ وأي سعادة يجلبها فوز منتخب بالكأس، بعد أن وقف اللاعبون جميعهم يؤدون التحية النازية للزعيم الفاشي بينيتو موسوليني قبل كل مباراة حتى وإن لم يكن جالسًا في المدرجات؟

قبل أيام من انطلاق بطولة 1934-التي ضغط نظام الديكتاتور الإيطالي على "فيفا" من أجل تنظيم بلده لها، واستخدم طُرقًا ملتوية حتى لا يتعثر المنتخب الإيطالي، في طريقه نحو لقب المونديال، مثل أنه ضغط على اليونان لإلغاء مباراة العودة بينهما في التصفيات المؤهلة للبطولة، ورشاها بشراء منزل من طابقين في أثينا- "اجتمع الدوتشي بمدرب المنتخب الإيطالي فيتوريو بوتسو لتحذيره، قائلًا: "أنت المسؤول الوحيد عن النجاح، لكن ليكن الرب في عونك إذا انتهى الأمر بفشلك". وامتد تهديده كذلك إلى لاعبي الفريق: "إما الفوز أو الصمت التام"، هكذا حذرهم وهو يمرر سبابته بعرض عنقه عند حنجرته أثناء وليمة غداء جمعتهم لغرض مفترض هو "تعزيز الصداقة"! فكأس العالم بالنسبة إلى موسوليني لم يكن "مجرد منافسة رياضية، بل كان فرصة مثالية لإظهار القوة الفاشية للعالم بأكلمه".

الفوز أو الموت
وليس أفضل مثالا من تلك الواقعة للتدليل على تحكم السياسة في الكرة بشكل سافر، منذ النسخ المبكرة للبطولة الأبرز والأكثر جماهيرية في العالم، لكن في كتاب "أغرب الحكايات في تاريخ المونديال"*، للصحافي الأرجنتيني لوثيانو بيرنكي، عشرات الأحداث الأخرى، التي تثبت بشكل قاطع فساد الرياضة الأكثر شعبية.

حيث لم يلبث أن عاد موسوليني في البطولة التالية، ليهدد كل عناصر الفريق بالقتل –بمن فيهم المدرب صاحب الشأن الكبير فيتوريو بوتسو- إذا لم يعودوا إلى روما وهم يحلمون الكأس. وأرسل موسوليني تلغرافًا إلى معسكر الفريق-الذي يخوض نسخة كأس العالم 1938، التي استضافتها فرنسا- تضمن ثلاث كلمات فقط "الفوز أو الموت"، لكن موسوليني لم ينفرد وحده بدور الشرير في تلك البطولة، حيث قرر أدولف هتلر فجأة "أن الحدود الألمانية لم تكن بعيدة بالصورة الكافية عن برلين، وفي الثالث عشر من مارس 1938 خطر له ضم النمسا إلى خريطة ألمانية وتسبب هذا في ابتعاد المنتخب النمساوي عن المسابقة، على الرغم من تأهله بعد تخطي لاتفيا". لكن الشرير هذه المرة لم يكن الزعيم النازي بل الـ"فيفا"، بعد قرارها أن تصعد السويد التي أوقعتها القرعة في المنافسة أمام النمسا مباشرة إلى الدور التالي، وقالت في بيان مقتضب إنه "في جدول المباريات الرسمي ستصعد السويد للدور التالي لعدم حضور المنتخب النمساوي"، وذلك "دون ذكر كلمة واحدة عن المأساة التي كانت تمر بها الدولة الأوروبية".

حرب الهندوراس
وربما لم تكن الحرب العالمية الثانية، الحرب الوحيدة التي تأثر بها المونديال، فثمة حرب أخرى دارت رحاها في الأميركتين بسبب كرة القدم، ففي يوليو 1969 " كانت العلاقة بين هندوراس والسلفادور متوترة وقائمة على الشد والجذب لعدة سنوات، حتى باتت أي مواجهة بينهما في التصفيات المؤهلة لمونديال المكسيك (1970) حُجة لإشعال نزاع مسلح. وبدأت "حرب كرة القدم" تتشكل في الثامن من يونيو عندما فازت هندوراس في عاصمتها بهدف نظيف على السلفادور. وبعد ذلك بأسبوع فازت السلفادور بثلاثة أهداف نظيفة. وشهدت هذه المباراة وقوع مجموعة من الحوادث في المدرجات بين جماهير المنتخبين. وضخمت وسائل الإعلام الهندوراسية ما حدث بطلب من الديكتاتور أوسبالدو لوبيث أوريانو الذي استغل الوضع ليضرب على الوتر الحساس وهو الهجرة المستمرة للسلفادوريين الباحثين عن عمل على الجانب الآخر من الحدود بسبب العداء بين الأمتين. وبدأ لوبيث أوريانو حملة قومية قوية عبر وسائل الإعلام، وحين اشتعل ثقاب عداء الأجانب أمر بمصادرة أملاك السلفادوريين المقيمين في بلاده وإعادة توزيع أراضيهم وممتلكاتهم على المزارعين المحليين. وازداد الوضع توترا خاصة حين فازت السلفادور على هندوراس بثلاثة أهداف مقابل اثنين في مباراة الإعادة الحاسمة التي لُعبت في السابع والعشرين من يونيو بمكسيكو سيتي. وفي الرابع من يوليو عبر الجيش السلفادوري الحدود للدفاع عن مواطنيه ووصل إلى أبواب عاصمة هندوراس، لكن تدخل منظمة الدول الأميركية السريع جعل النزاع المسلح لا يستمر سوى خمسة أيام، غير أن المعارك التي شهدتها تلك الفترة أسفرت عن حصيلة مؤسفة من القتلى هي أربعة آلاف شخص"!

شجار
وبالرغم من زوال الفاشية والنازية، إلا أن تحالف أوروبا للقضاء على نظامي هتلر وموسوليني، لم يكن كافيًا لتخليصها من عنصريتها، ففي دورة 1954 من الكأس التي استضافتها سويسرا، التقى منتخبا البرازيل والمجر القويان، وانتهى اللقاء بفوز الأخيرة بنتيجة 4-2 لتتأهل لملاقاة أوروغواي في ربع النهائي، و"بعد أن أطلق حكم المباراة صافرته أحاط به البرازيليون لتأنيبه على ركلة جزاء احتسبها أثناء المباراة، وبينما كان كل هذا يحدث، تقدم لاعب من منتخب البرازيل من زميل له في منتخب المجر ومد له يده اليمنى بالتحية كعلامة على الصداقة، لكن عندما مد له الآخر يده وجه إليه الأول لكمة في فكه بيده اليسرى، وتسبب هذا الاعتداء في شجار هائل شارك فيه اللاعبون والبُدلاء والجهاز الفني لكلا المنتخبين، حتى أن بوشكاش لاعب المجر الأسطوري (والذي لم يشارك في المباراة) نزل إلى أرض الملعب وألقى زجاجة أصابت وجه صانع الألعاب جواو بابتيستابينييرو، وتمكن زملاء هذا الثاني من إخراجه من الملعب ووجهه مغطى بالدماء، وسط هذا الشجار الذي تعرض فيه شرطيان للإصابة وهما يحاولان الفصل بين طرفي النزاع. وعلى الجانب الآخر من خط الملعب ألقى مدرب البرازيل زيزيه مورييرا بحذاء على نظيره المجري جوستاف سيبيس، وهو ما أحدث جرحًا عميقًا في جبهة الأخير تطلب تقطيبه بالغرز الطبية"، لكن المؤسف في أمر تلك المباراة لم يكن التصرف الهمجي الذي قام به اللاعبون وحدهم، وإنما ما قامت به فيفا عقب تلك المباراة الدامية، حيث قررت عدم إيقاف أحد، واقتصر رد فعلها على إنذار البعثتين كليهما بسبب "تصرفاتهما التي تخلو من الروح الرياضية"، لأنها رأت أن أي عقوبة تعمم على الفرقتين "لن تضر أحدا سوى المجر في مواجهتها مع أورغواي".

عندما تآمروا على الجزائر
واقعة أخرى أشد دناءة، تبرز كيف تتحكم الإثنية في رياضة من المفترض أنها تحارب العنصرية، حيث شهد مونديال أسبانيا من العام 1982، واحدة من أكثر "المباريات إثارة للاشمئزاز في تاريخ مونديالات كرة القدم بين ألمانيا والنمسا. وكان السبب وراء العار الذي شهدته هذه المواجهة هو انتصار الجزائر المفاجئ على الألمان بهدفين مقابل واحد (...) دارت عجلة المباريات وكان على الألمان أن يواجهوا النمساويين في ختام المجموعة، بعد يوم واحد فقط من انتصار الجزائر على تشيلي، رابع فرق المجموعة. عندما بدأ اللقاء كانت النمسا والجزائر تتصدران المجموعة بأربع نقاط لكل منهما؛ إذ كان للأوروبيين ثلاثة أهداف دون أن يكون عليهم شيء منها، وكان للفريق العربي خمسة أهداف وعليه العدد نفسه أيضًا. وكانت ألمانيا، بعد فوزها على تشيلي، في حاجة للفوز على النمسا بهدف نظيف لتتأهل، وهي النتيجة التي كانت تضمن للنمساويين أيضًا العبور إلى المرحلة التالية من المنافسات في مقابل توديع الجزائر لها. (وخلال المباراة) سمح النمساويون (...) للألماني هورست غروبيش بتسجيل هدف المباراة الوحيد بعد مرور عشر دقائق. وبداية من تلك اللحظة اشترك الفريقان في بطولة مسرحية هزلية لم تُدع إليها منطقتا الجزاء والمرميان. وحقق المنتخبان الأوروبيان غرضهما بعد انتهاء الوقت الإضافي واضطر الفريق الإفريقي المسكين إلى العودة باتجاه دياره".

مسرحية هزلية أخرى، شهدتها التصفيات المؤهلة لبطولة كأس العام 1974 التي استضافتها ألمانيا، ففي الحادي عشر من نوفمبر 1973، تقرر أن تواجه شيلي -متصدر المجموعة الثالثة من أمريكا الجنوبية- الاتحاد السوفياتي على بطاقة التأهل، و"في السادس والعشرين من سبتمبر لُعبت مباراة "الذهاب" في موسكو وانتهت بالتعادل السلبي. وكان من المقرر أن تلعب مباراة الإياب في سانتياغو، لكن المنتخب السوفياتي أعلن انسحابه بسبب الإطاحة بالرئيس الاشتراكي الديمقراطي سلفادور ألليندي، على يد الجنرال الفاشي أوغستو بينوشيه، حيث قالت موسكو إن منتخبها لن يلعب مهما يكن الظروف في ملعب سانتياغو الوطني، بعدما شهد حالات تعذيب وإعدام رميًا بالرصاص (...) وفي ظل غياب السوفيات، أعلن الحكم النمساوي إريك لاينماير الذي عينته "فيفا" لإدارة المباراة فوز أصحاب الأرض ليحصلوا على بطاقة التأهل لألمانيا. وعلى الرغم من هذا صنع التشيليون محاكاة فيها من السخرية ما فيها من الأسف إذ نزل لاعبو الفريق في موعد المباراة إلى أرض الملعب وهم يرتدون طقم المنتخب الرسمي (...) ليلعبوا ضد خصم غائب"، ولا تعكس تلك الواقعة العجيبة عدم احترام الأنظمة المرعية للعبة فحسب، وإنما تكشف أيضًا عن حجم التغييب الذي وصل إليه الجمهور الذي صفق لهذه المهزلة، فبعد أن بدأت المباراة مرر لاعبو تشيلي الكرة في ما بينهم باتجاه منطقة "الخصم"، حتى أرسلوا الكرة نحو المرمى الفارغ، و"احتفل خمسة عشر ألف شخص مبعثرين في المدرجات بصورة مبالغ فيها بالهدف".

تعكس الوقائع السابقة، صحة الاتهامات الموجهة دائمًا إلى كرة القدم، فالسياسة تعبث بها مثلما يعبث اللاعبون بالكرة، وتتحكم بها النزعات القومية والعنصرية، ويشجعها جمهور مغيب يهتف لملعب فارغ ويحتفل بانتصار زائف، ويمارسها مجموعة من الهمج، وإن لم تكن واقعة المجر والبرازيل كافية للتدليل على همجية اللاعبين، فمحاولة منتخب الأرجنتين تسميم المنتخب البرازيلي في كأس العالم 1990، تكفي، حيث سلم مُدلك المنتخب الأرجنتين زجاجة مملوءة بسائل مثير للقيء للاعبي البرازيل في المباراة التي جمعت الفريقين في ثمن النهائي. وأكد عدد من اللاعبين الأرجنتينيين الذين شاركوا في هذه المباراة، ومنهم دييغو مارادونا، علمهم بهذه الخدعة، بل إنهم احتفلوا بها!

ربما لم يعد هناك شك، بعد ما تقدم من وقائع، في أن ثمة جانباً قذراً من كرة القدم، فلماذا يعشقها هذا العدد المهول من البشر طالما احتوت على ذلك القدر من الفساد؟

لا تبدو الإجابة بأن الجمهور مغيب كافية، أو مقنعة على الإطلاق.

الحقيقة أن جمهور الكرة ليس مغيبًا بالمرة، وأقول –بالنبرة ذاتها التي أقريت بها ابمتلاك كرة القدم وجهاً قبيحاً- أن لكرة القدم تاريخها النبيل الذي يتفوق على أي دناءة شابتها، ولعلي في ذلك أقتبس من لوثيانو بيرنكي قوله، إنها تُظهر "يوميًا أنه مايزال هناك أمل، وأن فساد السلطة (لا يستطيع) أن يلوث دومًا الشغف أو الحب أو النبل"، وهذا ما سنتعرض إليه بالتفصيل في الجزء الثاني من عرض الكتاب.

(*) صدر الكتاب في طبعة مشتركة عن دار مسعى ومكتبة تنمية، وترجمه عن الأسبانية مباشرة بصورة موفقة المترجم المصري محمد الفولي، الذي كثيرًا ما تدخل لإيضاح المصطلحات والأسماء اللاتينية الغامضة أو غير الشائعة في الهوامش.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024