الجماعة الدينيّة والإيديولوجيا

أسعد قطّان

الأحد 2020/05/24
«الأفكار جيّدة على قدر ما تكون في خدمة الحياة. ولكنّها تصبح مؤذيةً إذا استقلّت وصارت لها حياة في ذاتها». 

يعرّف قاموس «روبير» الفرنسيّ، ولعلّه الأدقّ في العالم، لفظ «إيديولوجيا» بوصفه يشير لا إلى مجموعة من الأفكار والمعتقدات المختصّة بعصر من العصور فحسب، بل إلى فلسفة ضبابيّة او إلى ضرب من المثاليّة الساذجة. من النافل القول إنّ المعنى الأوّل محايد فيما المعنى الثاني ينطوي على حكم قيميّ. وحين نستخدم اللفظ في اللغة العربيّة، فضلاً عن لفظ «أدلجة» المشتقّ منه والمنحوت بالارتكاز عليه، فإنّ هذا غالباً ما يكون انعكاساً للمعنى الثاني غير المحايد.

يرتبط لفظ «إيديولوجيا» بكلمة فكرة (idea) التي نعثر عليها في معظم اللغات الأوروبيّة، وذلك بالاستناد إلى ورودها في اليونانيّة واللاتينيّة. ولكنّ الفارق بين الفكرة والإيديولوجيا هو أنّ الأخيرة غير محايدة لكونها تحوّل الأفكار إلى نظام متّسق فلسفيّاً وتضفي عليه صفة الإطلاق. من البديهيّ أنّ المشكلة ليست في الاتّساق الفلسفيّ، ولكن في تحويل البناء الفكريّ إلى معطىً مطلق وجعله بذلك في منأىً عن المساءلة والنقد. وهنا تكمن الخطورة. فكما تعلّمنا من الفلاسفة اليونان الأفذاذ، من سقراط إلى أفلوطين، كلّ فكرة، مهما سمت، يجب أن تكون خاضعةً للنقد، وتالياً للمراجعة والتعديل والتفكيك، وإلاّ فقدت حركيّة العقل البشريّ ديناميّتها وتحوّلت الأفكار إلى أصنام.

الإيديولوجيا ليست دينيّةً بالضرورة، فهي كثيراً ما تكون ذات طابع سياسيّ أو قوميّ أو عرقيّ. الإيديولوجيّات الأكثر خطورةً في القرن العشرين والتي سفكت أعلى نسبة من الدم الإنسانيّ، مثل النازيّة والفاشيّة والشيوعيّة (مع ضرورة تمييزها عن الفلسفة الماركسيّة)، لم تكن دينيّة المنحى، وذلك رغم أنّها سخّرت المؤسّسة الدينيّة المسيحيّة في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وروسيا في سبيل مصالحها. ولكنّ الثابت أيضاً أنّ الأفكار الدينيّة يمكنها أن تتحوّل إلى إيديولوجيّات بمجرّد أن تصبح، كما كتب جورج خضر ذات يوم، «فكراً معلّباً»، أي لا يقبل المراجعة ولا يحتمل النقد.

يُنسب إلى أحد الفلاسفة المعاصرين قوله إنّ القرن الحادي والعشرين سيكون عصر الدين أو لا يكون. بقطع النظر عن مدى صحّة هذه الفرضيّة، فإنّ القرن الواحد والعشرين يتّسم، ولا شكّ، بانتعاش للإيديولوجيّات الدينيّة. هذا الانتعاش له أسبابه التاريخيّة والمجتمعيّة والثقافيّة التي يمكن تقصّيها وتحليلها. ولكنّ ما يسترعي الانتباه خصوصاً هو أنّ الإيديولوجيا الدينيّة، بفعل عدم قبولها للمساءلة، كثيراً ما تفضي إلى الضغط على الإنسان وصولاً إلى قمعه واضطهاده. والإنسان هنا هو بالدرجة الأولى الإنسان الفرد. طبعاً هناك حالات يجري فيها اضطهاد الجماعات الدينيّة أيضاً باسم الإيديولوجيا. ولكنّ الغالب هو أنّ الايديولوجيا تضطهد الإنسان الفرد باسم الجماعة، وهذه الجماعة كثيراً ما تكون دينيّة. قد يقول قائل: هذا فكر يستلهم شرعة حقوق الإنسان، وهذه الشرعة منتج غربيّ. لا ريب في أنّ شرعة حقوق الإنسان تعتبر أنّ الإنسان الفرد هو المنطلق والقيمة الكبرى. لكنّ قيمة الفرد الإنسانيّ، التي يمكن أن يضحّى بها على مذبح الجماعة، ليست اختراعاً غربيّاً ولا هي بنت شرعة غربيّة المنشأ. اسألوا الأمّ التي تحزن لمرض كلّ طفل من أطفالها وتبكي على موتهم لا جماعيّاً، بل فرديّاً. استرجعوا قصيدة ابن الروميّ الرائعة في رثاء ابنه «الأوسط». واستذكروا صليب يسوع الناصريّ وكيف هتف رئيس الكهنة حين قرّر غرانيق الأمّة اليهوديّة تسليمه للقتل على يد الحاكم الرومانيّ : «خير أن يموت إنسان واحد عن الأمّة».

إذا كان سقراط هو «أوّل» شهيد للحقيقة في تاريخ البشريّة، فإنّ موت نجّار الناصرة يحيلنا إلى «أوّل» موت للإنسان الفرد على مذبح الجماعة الدينيّة من خارج الأسطورة، وذلك حين يحوّل صلف الكبرياء هذه الجماعة إلى إداة للقتل. وكلّ الذين قتلتهم جماعاتهم الدينيّة السكرانة بغطرستها ومتاهة تفوّقها من الأئمّة والعلماء والمتصوّفة انضمّوا إلى موكبه وصاروا معه ضمير الإنسانيّة، وضمير الدين، في الدفاع عن حقوق الأفراد حين تقرّر الجماعة الدينيّة أن تسحقهم بسبب ارتعادها من كلام الحقّ الذي يخلخل ويقلب وينسف. وهذا كلّه قبل شرعة حقوق الإنسان بكثير، حتّى إنّه ربّما يكون قد أوحى لها ببعض من حدسها البهيّ ومسالكها المضيئة.

الجماعة الدينيّة، التي غالباً ما تنصّب المُؤَسّسة الدينيّة ذاتها مدافعةً عن «حقوقها»، مطالَبة إذاً بأن تنقّي ذاتها من الإيديولوجيا التي تزهق الدين الحقيقيّ، وهذا يتّصف بأنّه يكسّر الأصنام كلّها، مادّيّةً كانت أم فكريّة. ومعيار الدين الحقيقيّ هو الإنسان، والإنسان الفرد على الأخصّ. وكلّ كلام عن معيار آخر هو ضرب من اللغو وغياب المعنى، لأنّه يتهافت أمام النقد المحكم الذي يفضح سقوطه في فخّ تحويل الأفكار الدينيّة السامية إلى منظومات إيديولوجيّة معلّبة. ومن ثمّ، فإنّ الجميع، ولا سيّما المفكّرين الدينيّين والفلاسفة، مطالبون بأن يفكّكوا المفاهيم والممارسات التي تضفي على الجماعة الدينيّة، سواء كان اسمها كنيسةً أو أمّةً أو أيّ شيء آخر، صفة الإطلاق وتحوّل البشر الأفراد إلى عبيد أرقّاء في خدمة عمارات فكريّة موصدة. الأفكار مهمّة على قدر ما تكون في خدمة الإنسان، وخدمة كرامته وحرّيّته وازدهاره. فإذا فقدت الأفكار مرجعيّتها الإنسانيّة هذه، تحوّلت إلى وباء أخطر من الأوبئة التي تفتك بنا اليوم، حتّى ولو كانت أفكاراً دينيّة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024