سوريا في "الأيدي القذرة".. لا صدفة هنا

خلدون النبواني

الأربعاء 2016/12/28
"الأيدي القذرة" مسرحية من سبعة فصول للفيلسوف الفرنسي الأشهر جان بول سارتر، كتبها العام 1948. وإن كانت تندرج ضمن ما تم التعارف عليه بالأدب الملتزم، وأنها ذات موضوع سياسيّ مباشر، إلا أن تحليلاً أعمق يجعلنا ندرك أن سارتر حاول عبر شخصية الزعيم الماركسي "أودريه" أن يُدخل الفلسفة إلى السياسة أو، بشكل أدق، الوجودية إلى الماركسية، بل ان يُصلح الماركسية الطهرانية كما تجلت في المسرحية عبر شخصية "هوغو" المثقف البرجوازي الذي يدخل الحزب الشيوعي ليدافع عما يظنه بدوغمائية متشددة، الحقيقة والمبادئ مطلقة الصحة التي تتعالى على حياة الناس بالأهمية والقيمة، والتي تستحق النضال وحدها بوصفها قضية القضايا، والتي يمكن من أجلها أن يموت الثائر المؤمن بها، أو أن يَقتُل أياً كان دفاعاً عنها.

لكن كيف يمكن لهذه المسرحية التي كُتبت بُعيد الحرب العالمية الثانية في فرنسا، وفيها مؤشرات واضحة على تلك العلاقة المضطربة جداً والقلقة التي عاشها سارتر مع الماركسية السياسية، أن تعكس الوضع في سوريا؟

من ناحية، هي مسرحية تحمل ندوب الحرب والصراع السياسيّ والقوى المتصارعة على السلطة، حد الاغتيال السياسي وإلغاء الآخر نهائياً، ما يذكرنا بحال الحرب في سوريا. فكما يتوسل النظام السوري اليوم، الدعم الروسي، ظناً منه أنه جاء ليحمي حكمه إلى الأبد، تُظهر لنا المسرحية كيف يعقد الحزب الشيوعي الفرنسي، ضعيف التمثيل وقليل الأتباع (قياساً إلى اليمين القوميّ وحزب المَلكية)، كل الآمال، على دعم الجيش الأحمر السوفياتي الذي صار على حدود ألمانيا، وينتظر منه الشيوعيون الفرنسيون أن يأتي إليهم ليضعهم وحدهم في الحُكم. لكن حين سيحاول زعيم الحزب الشيوعي، والسياسيّ الإنسانيّ بعيد النظر، أن يتحالف مع القوتين السياسيتين الأُخريين، لقناعته بأن القوة لا تصنع حكماً ثابتاً ومستقراً له قاعدة شعبية، وأنه حتى لو دعمهم الجيش الأحمر بالقوة فإن الناس ستثور عليهم وتقلب حكمهم، وأن لا طريق لإنقاذ الحزب والبلد سوى التحالف والتفاوض مع القوة السياسية الداخلية.. يتم قتله. فهو يخاطب هوغو المكلف بقتله من قبل الحزب: "وكيف لنا أن نحتفظ بالسُّلطة؟ حين يدخل الجيش الأحمر حدود بلدنا، فإنني أضمن لك أننا سنعيش لحظات عصيبة... إن كل الجيوش في الحروب سواء أكانت تحريرية أو لا تتشابه في ما بينها: تعيش على أرضٍ مُحتلة. إن فلاحينا لا يحبون الروس، وهذا حاسم، فكيف تريد أن يحبونا نحن الذين فَرَضَنا الروس بالقوة؟ سوف ندعى بالحزب الأجنبي وربما أسوأ من هذا"...

تعكس المسرحية أيضاً تلك المواقف التنظيرية غير العملية سياسياً والصادرة عن مثقفين طهرانيين أو عقائديين متشددين، يرون في الثورة إما نصراً خالصاً أو تدميراً مستمراً بلا مساومة. يتجلى هذا في الحوار المحتدم بين أودريه وهوغو، حيث يقول الأول للثاني: "كم أنت خائف من أن تلوث يديك. حسناً ابق نقياً!... إن النقاوة هي فكرة الدرويش و الراهب. وأنتم أيها المثقفون والفوضويون البرجوازيون تستخدمون ذلك كحجة لكي لا تفعلوا شيئاً. لا تفعلوا شيئاً إذن، ابقوا جامدين، تكتفوا والبسوا القفازات. أما أنا، فيداي قذرتان حتى الكوع فقد وضعتهما في الخراء والدم.. إن نقاءك يُشبه الموت، والثورة التي تحلم بها ليست ثورتنا: إنك لا تريد تغيير العالَم، وإنما تريد تفجيره".

يَقتُل هوغو، زعيم الحزب أودريه، بثلاث طلقات، ويذهب إلى السجن ليقضي فيه سنتين. يخرج بعدها وقد تماهى مع شخصية أودريه القائد الكاريزمي الذي كان معجباً به شديد الإعجاب واقتنع بأفكاره بعدما قتله. يحاول الاتصال بأصدقائه القدامى في الحزب، الذين حثوه وكلفوه بقتل أودريه، فيجد أنهم يريدون قتله هو، وأنهم ما إن وصلوا إلى سلطة الحزب بعد هوغو حتى عملوا مثله، وراحوا يطبقون مشروعه بالحرف، أي تخلوا عن الطهرانية الثورية وصاروا يتعاملون بأدوات التفاوض السياسيّ، خصوصاً أن أملهم في الدعم الروسيّ حتى النهاية والوصول إلى السُّلطة، لم يكن سوى أضغاث أحلام. فقد تخلى عنهم الروس بحجة أن دعمهم الكامل لطرف واحد قد يخلق لهم مشاكل مع الحلفاء، وأنهم لا يريدون أن يعطوا السُّلطة لجهة واحدة، بل يريدون منحها للقوى السياسية الثلاث، وأنهم سيكونون المحتل الجديد بعد إخراج ألمانيا من فرنسا. هكذا نقرأ على لسان هوغو، الخارج من السجن والمصدوم بقذارة السياسة وتحكم مصالحها في الأشخاص حد القتل: "أعتقد أن السوفيات قد أفهموكم بشكل ما، أنهم لا يأملون بمنح السُّلطة لحزب واحد، فقد يسبب لهم ذلك مشاكل مع دول التحالف، وأنكم في حال مُنحتم السلطة ستُطردون سريعاً بثورة شعبية؟"

"الأيدي القذرة" عند سارتر، هي أولاً الأيدي القاتلة التي اشتغلت وسيطاً للقوى الخارجية الساعية قبل كل شيء، للسيطرة واحتلال البلد وكيف أن لعبة السياسة هي قذرة بوصفها لغة مصالح وسيطرة وقوة وإكراه وخيانة ليس فقط للمبادئ، وإنما لكل من عوّل على قوة خارجية (قوة الروس هنا) في السيطرة على السلطة أو تثبيت الحكم. لكن مسرحية "الأيدي القذرة" هي أيضاً نقاش جديّ حول دور المثقف وغربته عن السياسة العملية وبحث في كيف أن السُّلطة تشارك، فالحل السياسيّ سيفرض نفسه على طاولة المفاوضات بعد خسارة كل تلك الأرواح البريئة أو المغرر بها، بشعارات ومبادئ تمسح بها أدمغتهم وتلقن لهم على أنها أعلى قيمة من الإنسان.

"الأيدي القذرة" لا تعكس الواقع السوريّ بالصدفة، وإنما هي مسرحية الاحتلال والاغتيال السياسيّ والخيانة والأيدي الغارقة في الدماء في كل زمان ومكان، وهي تتكرر متشابهة من دون أن يتعلم الإنسان من التاريخ سوى شيء واحد: "ألا يتعلم منه شيئاً".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024