أن تكون ساندرا نشأت..

هشام أصلان

الأربعاء 2018/03/28
تنتمي المُخرجة المصرية المعروفة ساندرا نشأت إلى شريحة متوسطي الموهبة، ملحوظي الشطارة والذكاء. هؤلاء قلّة في الوسائط الفنية عمومًا وليس في السينما وحدها. تستطيع أن تضع قبل أسمائهم، وبضمير مرتاح، وصف: المخرج، الكاتب، الممثل، لكن ليس: الفنان. هؤلاء المهرة في إدارة الموهبة المتواضعة سيصنعون أعمالًا لن تراها رديئة، لكنك لن تأخذها على محمل الفن. هُم يقفون في منتصف دائرة التلقي. يتسلى الجميع بما يقدمونه من أعمال دائمة البُعد من المناقشات الجادة. هُم في المقابل لا يطرحون أنفسهم يومًا كمهمومين بسؤال إنساني أو ما شابه.


من هنا، من كون ساندرا ليست من المشغولين بسؤال الفن، أوقفت أسئلة راودتني عندما سمعت بأمر "شعب ورئيس". قالوا إنه فيلم وثائقي عن حياة الرئيس السيسي، يُعرض على مشارف الانتخابات الرئاسية. شاهدته ولم أفهم طبيعة علاقته بصناعة الأفلام أو بأي صناعة أخرى.

في عملها الأخير، لم تجلس ساندرا أمام الرئيس مباشرة. كانت إلى يساره قليلًا. تحاول كبح انبهار فضحته لغة جسدها، وارتباك نظرتها إلى رجل يغض البصر عنها ويوجه إجاباته إلى عدسة الكاميرا:

ـ كنت طالباً متفوقا يا فندم؟

ـ آه كنت متفوقاً.

ـ إيه أكتر مادة كنت بتحبها؟

ـ التاريخ. التاريخ سجل للإنسانية.

ـ حضرتك وانت في المدرسة، كنت حاسس إنك هتبقى موجود في التاريخ ده في يوم من الأيام؟

ـ أنا عمري ما دورت على التاريخ.

ـ يتهدج صوتها: ياه.

السيدة العاملة في صناعة الفن لم تجرؤ، طبعًا، على سؤال حول حرية الفكر والرأي وملامح قمعها غير المسبوق. وبصراحة، لا يستطيع الواحد أن يزايد على طبيعة الأسئلة. الجميع يعرف أن هذا أمر لا يد لها فيه. هي تسأل في ما هو مسموح. لكنك قد تتساءل عما أجبر مخرجة سينمائية على الذهاب إلى القصر الرئاسي. أو ربما هي ليست مشغولة بملف الحريات. صحيح، هذه أمور تهم الفنانين والمشغولين بالرأي.

لم يخلُ الأمر من فقرة أسئلة لبسطاء الشوارع عما يرهقهم في هذه الحياة حتى توصّل أصواتهم للرئيس، هكذا قالت لهم. الشكاوى من الجوع والمرض لا تستفزه كثيرًا، مع ذلك لم يستطع إخفاء شيء من الضيق.


التغطيات الصحافية المصرية، وفي حدود المسموح لها، اشتغلت على تقييم ساندرا كمحاورة للرئيس، لا كمخرجة للفيلم. الصحافة المصرية مبهورة بساندرا، وتتساءل: لماذا اختارها الرئيس ولم يختر أياً من الإعلاميين؟ فكرتُ إذا كانت هذه الصيغة قد تسببت لها في أي إزعاج. البعض قال إنه اختارها حتى لا يميّز إعلامياً عن زميله. صحيح، كل الموجودين على الشاشة هم أبناؤه. بينما ذهب البعض إلى خبرة ساندرا القديمة في العمل على هذا النوع من الدعاية السياسية. والسبب في التبرير الثاني، أن ساندرا كانت صوّرت منذ سنوات عملين تطرقا الى مسائل قريبة من هذا المنحى. الأول كان اسمه "شارك" قام على حشد المواطنين للمشاركة في الاستفتاء على الدستور، والثاني بعنوان "بَحلم"، حيث كانت تركض وراء المواطنين بالكاميرا لتسألهم واحدًا تلو الآخر، وبمحاولات للاستظراف: "بتحلم بإيه؟ وبتطلب إيه من الرئيس الجديد؟". غير أن المشغولين بسبب اختيارها لمحاورة الرئيس، فاتهم احتمالية كونها من أهل ثقة أجهزة الأمن، عبر تعاون قديم أنتج فيلم "المصلحة" المُتهم بمجاملة وزارة الداخلية، ووجه صُنّاعه الشكر لأجهزة الأمن على شارة النهاية. للمفارقة، بطل الفيلم أحمد السقا يجسد شخصية الرئيس السيسي في مسلسل يتم تصويره هذه الأيام.

كادت تداهمني الأسئلة الوجودية، عن أصل علاقة المبدع بالسلطة. كيف يطيق وجوده على يمينها؟ ما يتناقض مع قوام المعنى الموجع لفكرة الفن بطموحه المستمر لما هو أفضل من أي واقع ولو كان مرضيًا بشكل أو بآخر. عن المسافة الفاصلة بين المثقف والحاكم. عن متاجرة الفنان البسطاء وأحلامهم، وتوظيفهم بتضليل فيتوهمون فرصة قول رأيهم بصراحة. البسطاء لن يتحدثوا سوى عن بطونهم وبطون أطفالهم.


ببلاهة، فكرت في ما يزيح الخجل عن عقل وإحساس فنان يجتهد في الترويج لسلطة أرست القمع منهجًا، واستحوذت على المجال العام فنًا وفكرًا وسياسة. فكرتُ في ما يحتاجه الفنان أكثر من أن يُخرج ما لديه من فن إلى أوسع دوائر التلقي. فكرت قبل أن أنتبه وأوقف التفكير والأسئلة، وأتذكر أن حرج الفنان مرفوع عن متوسطي الموهبة، وإن كانوا أذكياء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024