الخليج المسيحي

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2019/02/05
أنجز البابا فرنسيس زيارة تاريخية إلى أبوظبي، هي الأولى من نوعها إلى شبه الجزيرة العربية، والتقى شيخ الأزهر تحت مسمّى "لقاء الأخوة والإنسانية". أعادت هذه الإطلالة إلى الواجهة الحضور المسيحي في الخليج، وهو حضور يعود في الواقع إلى قرون بعيدة، كما تشهد بعض الآثار المكتشفة في هذه البقاع.


في تشرين الثاني/نوفمبر2017، زار البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، الرياض، تلبية لدعوة من الملك سلمان بن عبد العزيز، وقيل يومها ان هذه الزيارة ستكون أول الغيث في رسم مشهد جديد لن يخلو من المفاجآت الـ"ما فوق سياسية"، كالإعلان عن عزم المملكة ترميم كنيسة أثَرية جرى اكتشافها وتعود لنحو 900 عام، على أن تكون "هديّة رمزيّة" لحوار إسلامي مسيحي واعد يعيد تصويب البوصلة. وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي، أنباء عن عزم المملكة ترميم كنيسة أثرية قديمة على أراضيها، بالتزامن مع زيارة البطريرك، فيما لم يتم تأكيد المعلومة من أي جهة رسمية سعودية.

في الواقع، تشهد الكنيسة الأثرية في السعودية، وأطلال الدير في جزيرة صير بني ياس في دولة الإمارات، لوجود مسيحي في الخليج العربي اندثر منذ زمن بعيد، وشواهد هذا الحضور الأثرية موزعة اليوم في أراض تتبع دولاً متعددة، غير أنها تنتمي إلى دائرة كنسية واحدة في الأصل. تقع الكنيسة التي "أهدتها" المملكة السعودية إلى البطريرك الماروني، في شمال محافظة الجبيل، في المنطقة الشرقية من المملكة شمالي مدينة الدمام، وقد اكتشفت في حفرية "طوى الشلب" العام 1986، وهي بناء متواضع مزيّن بالصلبان العارية يرتفع في موقع يضم باحة كبيرة وسلسلة من القاعات، ما يوحي بأنها تعود إلى دير صغير. وهذا الدير ليس الموقع المسيحي الوحيد في المملكة السعودية، إذ نقع في مدينة ثاج الأثرية على بناء آخر زُيّن مدخله بالصلبان، ما يوحي بأنه كنيسة، وقد عثر المنقبون في هذا الموقع على إناء مزين بالصلبان، ما يؤكد هوية هذا الموقع الذي يعود إلى مدينة كانت في الماضي أحد المراكز الحضاریة المهمة في الجزیرة العربیة، وقد ازدھرت في الألفیة الأولى قبل المیلاد، وتعدّ أكبر موقع هللنستي معروف في المنطقة الشرقیة حتى يومنا هذا.

إلى جانب آثار الجبيل وثاج، نقع على شواهد مسيحية أخرى في بلدة الحناة المجاورة. تقع هذه البلدة شمال شرقي ثاج، وهي مطوقة بالمدافن الأثرية العائدة إلى ما قبل الإسلام. في هذه المدافن، عُثر في نهاية سبعينات القرن الماضي، على أكثر من عشرة شواهد قبور مزينة بالصلبان، غير ان البحث المتواصل في هذا الموقع لم يكشف إلى اليوم عن أي بناء مسيحي.

وكان وزير الخارجية الإماراتي قد أشار إلى دير مسيحي في جزيرة صير بني ياس، "يعود تاريخه إلى القرن السابع الميلادي"، وتُعتبر هذه الجزيرة من المواقع الثمانية التي تشكل جزر الصحراء في منطقة الظفرة التابعة لإمارة أبوظبي. في الواقع، عمدت السلطة إلى إبراز هذا الموقع بشكل كبير، وافتتحته أمام الزوار في نهاية 2010.

جرى اكتشاف هذا الدير في العام 1992، ويتكوّن من سور خارجي يحتضن صوامع للكهنة ومطابخ ومخازن وحظائر للحيوانات، تتوزع جميعها حول فناء مركزي تتوسّطه كنيسة تزخر جدرانها بالزخارف الجصية. على بعد بضعة مئات من الأمتار، إلى الشمال والشمال الغربي، توجد مبانٍ أصغر حجماً، إضافة إلى خزان كبير للمياه موصول بقناة. عُثر في هذا الموقع على عدد من الأواني الزجاجية والمصابيح الزيتية التي كانت تستخدم لإنارة الكنيسة وصوامع الرهبان وغيرها من الغرف، كما عُثر على عدد من الأواني الطقوسية. في جزيرة أخرى، تقع شمالي جزيرة صير بني ياس، وهي جزيرة مروح، تمّ العثور على أطلال دير آخر، غير ان هذا الدير بدا أكثر تقشّفاً، إذ خلت جدرانه من أي حلل زخرفية، إلا ان المسح الهندسي للموقع يثبت بأنه يتبع مثالاً مشابهاً لدير صير بني ياس، وهو على الأرجح معاصر له.

نجد في الكويت مواقع مسيحية أخرى، مشابهة لتلك التي خرجت من الظل إلى النور في السعودية وفي الإمارات، أهمها "دير القصور" في جزيرة فيلكا الذي كشفت عنه بعثة فرنسية. تقع هذه الجزيرة في الركن الشمالي الغربي من الخليج العربي، على بُعد 20 كيلومتراً من سواحل مدينة الكويت، ويقع الدير الذي تحويه في منطقة القصور، في وسطها، وتضم هذه المنطقة مواقع أثرية عديدة بلغ عددها 12 موقعاً. يحوي هذا الدير كنيسة تتبع التخطيط التقليدي، طولها 35 متراً وعرضها 19 متراً، وهي مزيّنة بحلل تقارب بشكل كبير تلك التي نجدها في جزيرة صير بني ياس. كذلك، عثر المنقّبون على كنيسة أخرى في جزيرة عكاز قريباً من برّ الكويت، وحوى هذا المواقع بقايا حلل منقوشة تتبع الأسلوب نفسه، واللافت ان كل الحلل المسيحية الخليجية المكتشفة حتى يومنا، تتبع نمطاً تجريدياً خالصاً، إذ تخلو من أي عنصر تصويري، آدمي او حيواني.

يكتمل هذا المشهد الجامع مع بقايا دير كشفت عنه بعثة يابانية منذ زهاء نصف قرن في جزيرة خارج الإيرانية، في الركن الشمالي الشرقي من الخليج، قبالة مدینة بوشهر، على بعد حوالى 25 كيلومتراً من السواحل الإیرانیة. يقع هذا الدير وسط بلدة أثرية، ويحوي كنيسة مزينة بالحلل الجصية التي نجدها في هذه البقاع الخليجية، كما يحوي مكتبة ومقبرة تضم عدداً كبيراً من الشواهد المسيحية.

يجمع اهل الاختصاص على القول بأن كل هذه المواقع تعود في الأصل الى الكنيسة السريانية الشرقية، والاسم الشائع لها في التاريخ هو الكنيسة النسطورية. من هذه الكنيسة، انشقّ فريق واتحّد بروما في منتصف القرن الخامس عشر، وأطلق البابا أوجينس الرابع على هذا الفريق اسم "الكلدان". في مرحلة لاحقة، عُرف أتباع الكنيسة الذي رفضوا هذا الاتحاد بـ"الأشوريين"، أو "الأثوريين"، وهي تسمية قومية تشير إلى قوم من الساميين استوطنوا شمال العراق منذ خمسة آلاف سنة، وقد شاعت في نهاية القرن التاسع عشر، بعدما أسس رئيس أساقفة كانتربري في هذه المنطقة "إرسالية رئيس الأساقفة في أشور".

يعود تاريخ هذه الكنيسة إلى بدايات المسيحية، ومؤسسها بحسب التقليد هو الرسول توما، والأكيد تاريخياً أن بشارة الإنجيل وصلت بواسطة الرسول تدّاوس إلى الرها، أي أورفا، من أورشليم وإنطاكيا، ومنها امتدّت إلى بلاد الفرثيين. هناك، على ضفاف دجلة، أقام مار ماري، تلميذ تدّاوس، دعائم كنيسة الشرق بالقرب من "المدائن الملكية"، سليق وطيسفون، على بعد 35 كيلومتراً من بغداد التي أسسها الخليفة المنصور العام 762. في القرن الثالث، سقطت الدولة الفرثية، وأقام الساسانيون الفرس عاصمتهم في المدينتين الملكيتين، وباتت كنيسة الشرق في أمبراطورية الفرس، وحمل رئيسها لقب "جاثليق"، وهو مرادف لـ"بطريرك"، والاسم الأول سابق للاسم الثاني زمنياً. في القرن الرابع، توسّعت حدود الدولة الساسانية، وأضحت نصيبين وحران جزءاً منها. جعل الملك بهرام الثاني من الزرادشتية ديناً رسميا للدولة، وأصدر الأمر بإلغاء الديانات الأخرى. في المقابل، أصدر الأمبراطور قسطنطين "منشور ميلانو" الذي اعترف بالمسيحية كدين من أديان أمبراطورية الروم. أراح هذا المنشور المسيحيين القاطنين في بلاد الروم، لكنه جعل مسيحيي بلاد الفرس "متواطئين مع العدو" بالنسبة للفارسيين، وجرّ عليهم سلسلة من الاضطهادات، قضى فيها مئات الشهداء.

في القرن الخامس، شهد العالم المسيحي نزاعات عقائدية حادة أدّت إلى انفصال السريان عما يسمّى "الكنيسة الجامعة". في العام 431، دان "مجمع أفسس" تعاليم بطريرك إنطاكيا نسطور، وبعد 20 عاماً، دان "مجمع خلقيدونية" تعاليم الراهب أوطيخس الخاصة بطبيعة المسيح. عُرف رافضو قرارات مجمع أفسس بالنساطرة، وعُرف رافضو قرارات مجمع خلقيدونية باليعاقبة، نسبة إلى المطران يعقوب البرادعي الذي رُسم إكليروساً خاصاً بهذه الجماعة في القرن السادس.

قبل دخول الإسلام، أنشأ السريان الشرقيون "أسقفية العرب" في الحيرة، و"أسقفية التغلبيين" في عاقولا، وفي القاموس المحيط، "عاقولَى، مقصورة: اسم الكوفة في التوراة". امتدّ الحضور السرياني ودخل الأراضي المطلّة على الخليج حيث أنشأ أسقفية "بيت قطراي"، أي بيت القطريين. ولم تقتصر هذه المنطقة على قطر الحديثة، إذ شملت كما يبدو مناطق أخرى، منها البحرين، وجزيرة تاروت والأحساء في المملكة السعودية. من "بيت قطراي"، خرج بعض من أكبر الأدباء النساك في الكنيسة السريانية الشرقية، ومنهم إسحاق النينوي، أعظم المعلمين الروحيين في القرن السابع، وجبرائيل القطري، وداديشوع القطري.

من المفارقات، تشهد المدوّنات السريانية لحضور المسيحية في "بيت قطراي" حتى نهاية القرن السابع فحسب، غير أن اللقى الأثرية تشهد لامتداد هذا الحضور إلى القرن التاسع، أي إلى العهد العباسي الأول، وأبرز شواهدها الكسر الخزفية التي تعود الى الفترة الممتدة من القرن السابع إلى منتصف القرن التاسع للميلاد. في انتظار ظهور مواقع أثرية جديدة، يبقى الخليج المسيحي عالماً "غامضاً" لم تتحدّد معالمه بعد، ويعمل المتخصصون على اكتشاف هذه المعالم منذ بضعة عقود من الزمن.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024