في المئوية الثانية لولادته.. حوار سريع مع شياطين دوستويفسكي

فوزي ذبيان

الخميس 2021/11/25
في العام 2002 وضع الفيلسوف الفرنسي اندريه غلوكسمان، كتاباً بعنوان "دوستويفسكي في منهاتن"، متحرياً عبره جنيالوجيا الشر أو أصل العدمية، وفصلها كما تبدّى هذا الشر في حدث 11 أيلول في نيويورك، وذلك انطلاقاً من شخصيات دوستويفسكية، لا سيما تلك المتدافعة في رواية "الشياطين" التي نشرها دوستويفسكي عندما كان في الخمسين من العمر. لا يخدع غلوكسمان نفسه بإمكان الهيمنة على تدفّق الدلالة التي تثيرها هذه الرواية، ومع هذا نراه يعمد، تماشياً مع سرديته الفلسفية في تقصّي أصول الشر، إلى محاولة استنطاق الروائي الروسي بما يلبّي حاجة السؤال حول هذا الحدث الذي غيّر خريطة العالم الذهنية والسياسية في ذلك الوقت.

وفي العام 2007 وتحت عنوان "الأدب والنبوءة"، نظّمت الأكاديمية البروتستانتية الألمانية مؤتمراً حول الإرهاب العالمي، انطلاقاً من أعمال دوستويفسكي، حيث اقترحت إحدى الباحثات التوغل في دوستويفسكي ومحاولة فهمه انطلاقاً مما يعتور العالم من جريمة وإرهاب وليس العكس، ولا يخفى ما في هذا الإقتراح من قلب منهجي، إذ انقلب العالم ليكون هو النص بينما النص (نص دوستويفسكي) اتخذ صورة الأزمة، لنكون بالتالي إزاء قارىء يعمل على استنطاق العالم من أجل الوقوف على المكنونات الأخيرة، لِما أراد الروائي الروسي قوله. وفي العام 2010، أصدرتُ رواية بعنوان "الإرهابي الأخير"، حاولت تلمّس هذيان إرهابيّها عبر شخوص دوستويفسكي، لنكون إزاء كائن غريب عن العالم عمد في نهاية الرواية إلى تفجير متحف اللوفر في محاولة منه لإسماع العالم صوته، وقد توقف هذا "الإرهابي" عن المكابرة على الإعتراف أن "ربّ قبيلته" مات.

السؤال الذي يُطرح بقوة حيال توظيف دوستويفسكي للوقوف على أحداث وقعت في القرن الحادي والعشرين، يتعلق بشكل رئيسي بأسباب راهنية دوستويفسكي اليوم. هل حقاً تلبي شخصيات هذا الخجول إلى حد التوحش، كما يصف دوستويفسكي نفسه، شروط فهم الحاضر البعيد من زمنه أكثر من 150عاماً؟!

هل لنا أن نتخيّل ردود أفعال راسكولنيكوف وشاتوف وكيريلوف وستافروغين وبافل بافلوفيتش والأمير ميشكين وألكسي إيفانوفيتش، فضلاً عن المراهق وناس الأخوة كارامازوف، وهم ينصتون إلى نشرة أخبار "سي أن أن" أو "الجزيرة" أو غيرها من المحطات مع البدايات الأولى للقرن الحادي والعشرين؟

افتتح النمسوي، ستيفان زفايغ، دراسته الرائعة عن دوستويفسكي بعبارة لغوته: إن ما يجعلك عصياً هو ألا تستطيع أن تنتهي. ثمة إجماع بين مؤرخي الأدب ونقاده على أن نص دوستويفسكي لا ينتهي من ناحية الدلالة وفيض المعنى إلى حد العبث، وذلك إنطلاقاً من اعتبارات عديدة، لعل أهمها الغموض، فضلاً عن الأسلوب الذي تناوله الكثير من الباحثين، وعلى رأس هؤلاء ميخائيل باختين في كتابه "شعرية دوستويفسكي" وهو ليس موضوعنا في هذه العجالة.

إن الغموض الذي يحايث مجمل السردية الدوستويفسكية، يقدم التسويغ الأمثل للإمكان الدلالي اللامتوقع ولعدم احتكار المعنى، بصرف النظر عن المنهجية المتبعة في القراءة والتأويل. إن هذا المتردد، القاطع، المستنكف، المقتحم والمنطوي على نفسه بمدى شاسع من الحيرة والإضطراب يلقَى له صدى في كل حقبة من حقبات التاريخ كما يرى دارسوه. في دراسة له بعنوان "دوستويفسكي ونهاية العالم"، يرى رينيه جيرار أن نقطة ارتكاز دوستويفسكي في ما كتب، وفي ما سارت عليه حياته من تقلبات وشجون، تكمن في شكه العميق في الوسيط الإلهي من جهة، وفي أخلاق البشر من جهة أخرى. أي أن نقطة ارتكازه لا نقطة ارتكاز لها، فإذا بنا – ودائماً حسب جيرار- إزاء كائن ارتضى لنفسه أن يكون كبش فداء المدينة بالتصور الجيراري لكبش الفداء. إن هذه الشخصية الملعونة لا تني كل مرة أن تكون حاجة المدينة للإستقرار، إذ أن الإستفراد بها، ثم تقديمها ككبش فداء، يعيد للمدينة راحة البال والركون إلى الطمأنينة والإنسجام... لقد قضينا على الشر!!

فدوستويفسكي، عبر شخوصه، والذي يتقمص أيوب في علاقته مع الرب تارة، ويعقوب في صراعه مع الملاك تارة أخرى، لا بد من ترويضه... فالخوف هو الإنطباع الأول الذي يتولى المرء عند السكنى في عالم دوستويفسكي، يقول رينيه جيرار.
فكائناته هي كائنات المدينة الملعونة، وتطرفهم ليس سوى محاولة بغية التعرّف على الذات كما هي حال راسكولنيكوف في رواية "الجريمة والعقاب" التي على الرغم من عدد صفحاتها الضخم، فإن أحداثها لا تتجاوز الأسبوعين. فالزمن النفسي في هذا العمل يتجاوز هشاشة الكرونولوجيا اليومية، وقد تكثّف هذا الزمن إنطلاقاً من ثيمة الضجر الذي قد حاز في مجمل أعمال دوستويفسكي على مكانة ميتافيزيقية، وهي ملاحظة الناقد الشهير رينيه ويليك.

ليست الميتافيزيقا، في السياق الدوستويفسكي العام، بحثاً في الماوراء، إنما سبراً في الأغوار العميقة للنفس... دوستويفسكي هو الوحيد الذي أفادني في علم النفس، يقول نيتشه. فالعالم هنا هو الإنسان، والماوراء هو هذا التمزق بين خيارات لا يمكن التوفيق بينها إلا عبر الجريمة، وبشكل خاص عبر الإنتحار.

الحاسة الأقوى في مجمل كتابات دوستويفسكي هي السمع: تكلم لأراك. ففي كل أعماله، نادرة هي الإشارة إلى الواقع الملموس خارج دائرة التطرف في الإنفعالات، وصولاً إلى الجريمة والقتل والإنتحار... الكل يسترق السمع على الكل في هذا المعمعان الجهنمي.

فـ"شاتوف" في "الشياطين"، انتحر بعد فشله في موضعة الله في قلوب أناس لا يثق فيهم، و"كيريلوف" في الرواية نفسها، انتحر ليثبت للآخرين أن لا إرادة إلهية تصدّه، وأنه سيد نفسه بإطلاق، والأمير ميشكين في "الأبله" انتحر وقد تمزق بين الطيبة ومحاولاته البائسة لإقتراف الشر الذي يستوجبه الخوض في الحياة... إلى آخر سلسلة الإنتحارات التي ارتقت في جملة كتابات دوستويفسكي إلى مرتبة الأيديولوجيا، لنكون إزاء استنطاق دلالي لهذه الثيمة من قبل الكثير من الباحثين الذين توفروا على هذه المرجعية بوقار، وقد لبّت طموحهم في نقد الأيديولوجيات بشكل عام.

ثمة تحيين آخر لدوستويفسكي إذن إنطلاقاً من ثيمة "الإنتحار كأيديولوجيا"، وهو تحيين سبق ذلك الذي اعتبر صاحب كتاب "الشياطين"، أمهر قارىء لنص الإرهاب مع بداية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من قبل جملة من الفلاسفة وعلى رأس هؤلاء غلوكسمان كما مر.

فعبر تأويل ميتا- ابستيمولوجي من قِبل فلاسفة ما بعد اوشفيتز والغولاغ والهولوكوست، صارت الأيديولوجيا بمثابة إنتماء مازوشي للأفكار والعقائد والبراديغمات، أما التأويل الميتا- ابستيمولوجي فهو ذاك التأويل البراغماتي الذي يوائم افتراضات المؤول ومقتضياته كما يعرّف أهل الإختصاص هذا النمط من التأويل.

فسولجنتسين، وهو أحد أحفاد دوستويفسكي الأوفياء، وفي إطار نقده للأيديولوجيا قال: إذا كان كبار مجرمي شكسبير لم يتركوا خلفهم إلا عشر جثث في نهاية الدراما، فذلك لأنهم تنقصهم الأيديولوجيا.

السياسة هي ستالين... الرايخ الثالث سوف يمتد لألف عام!
تحوّل المشهد، وقد كُشف النقاب عن الإنتماء المازوشي للأيديولوجيات من قبل شعوب وشعوب، فإذا بالسياسة وقد سقط القناع، تهبط من الطبقات العليا للتاريخ نزولاً إلى الطبقات السفلى حيث المهمش والطالب بشكل خاص.

... إنه دوستويفسكي يتجول في أروقة جامعات باريس في أيار 1968، ويردد مع الطلاب شعاراتهم: ليست الحداثة إلا تحديثاً للبوليس... لا سلطة فوق سلطة الطلبة... فلتسقط الأستذة وقبل كل هذه الشعارات الشعار التالي: كونوا واقعيين واطلبوا المستحيل.



إنها الشعارات التي تثبت أن لانهائية الإنسان، تكمن في عدم اكتماله وهو ما يتخلل مجمل كتابات الروائي الروسي الذي مات العام 1881.

إنه شبح دوستويفسكي يتلبّس فلاسفة الإختلاف ثم الفلاسفة الجدد، فإذا بالفلسفة تتحول إلى عريضة اتهام ضد السلطة وضد سائر السساتيم المغلقة بإحكام: بلادة الأخلاق الكانطية، توتاليتارية الدولة الهيغلية، انطولوجية البروليتاري الماركسي... لقد خرج الشيطان من أسر العقل المطمئن وكذبة العصر الذهبي والثورة المنضبطة داخل أسر الوعود. إنها عودة المكبوتات، أخذت تتخلل الحيز العام بتسميات مختلفة وصور من ذاكرة اللاإنضباط. لا ذات ثابتة إلا بالقمع، يقول جيل دولوز.

لا للإنسان المرهون للسياسة، لا للإنسان المرهون لله.
في إحدى مسودات "الشياطين" دار الحوار السخروي التالي بين شخصيتين من شخصيات الرواية:
-الأول: لسنا بعيدين عن ملكوت الله.
-الثاني: نعم، في شهر يونيو.
ماتت السياسة، مات الله وانغلق الأفق. ماذا تبقى للإنسان؟ شدّوا الأحزمة، إنه المصرفي الشرير.

أيضاً وأيضاً، إنه دوستويفسكي في قلب المدينة الأخيرة حيث الجنون والجريمة والإنتحار يتنقلون بواسطة القطارات السريعة بين المدن وناطحات السحاب. إرتأى لوكاش عند هذه اللحظة الحرجة أن يرى في دوستويفسكي شاعراً: إنه أعظم شعراء المدينة الرأسمالية، يصدح لوكاش، فهو الأول الذي رسم التشويه العقلي الذي يلازم الحياة في المدينة الحديثة.

يقول مؤرخ الأفكار جورج غوسدورف في كتابه "أصول التأويلية": المؤوّل مثل الدركي، يصل على الدوم متأخراً. (بشأن الدركي، غوسدورف محق فأنا الأدرى بهذا الأمر). من أين تأتّى لهذا العصابي المصروع اللامنتمي المستلَب المنعزل المنطوي أن يرى كل هذا عبر عيون رواياته و"الشياطين" منها بشكل خاص؟!! يسأل القراء. كيف له أن يرى العالم كمأساة وقد تكشّف العقل عن قدرات هشّة؟! لقد تم الإنتقال عبر "أبطال" دوستويفسكي من الخطيئة الأصلية إلى جريمة الوجود التي لا ملمح لها. إنهم رومانسيو الصفيح المتقد.

واحد من أهم قراء دوستويفسكي (جورج شتانير) يقول في كتاب له عن تولستوي ودوستويفسكي، أن التنوير الأوروبي طرق باب روسيا متأخراً، في منتصف القرن التاسع عشر وقد قوبل بالكثير من الشك والإرتياب.

فأي عقل متفائل سيفي بشرط الشك المتجذر!! لم يلتفت دوستويفسكي صوب هذا العقل المنتشي إلا بعين الحسرة والشفقة من جهة، وخالف تولستوي اطمئنانه حيال مملكة الرب الأبدية من جهة أخرى. فالأبدية، بالنسبة إلى دوستويفسكي، وعلى لسان إحدى شخصياته في "الشياطين" (سفيدريغيلوف)، لا تتجاوز أن تكون غرفة صغيرة تغطي جدرانها العناكب.

"أنا لست مفكراً نفسياً يقول دوستويفسكي، ما أنا إلا واقعي إنما على مستوى أعلى". إنطلاقاً من هذا المستوى، ربما يكون قد رتّب فضائه النبوئي ليحظى بكل هذه الرؤية وليستودع كل هذا الإختلاف. فالنبوءة لغز، فلا غرابة بالتالي كل هذا الإحتياطي الهائل من الدلالات التي تتلصص عبر أحداث رواياته وبشكل خاص عبر سلوك أشخاصه ولا توقع أفعالهم.

ثمة من رأى في "1948" لجورج أورويل، حاشية لإحدى روايات دوستويفسكي، وآخرون رأوا في "ميتامورفوزيس" كافكا استكمالاً لقوله في بيروقراطية الوظيفة في المدينة الحديثة وقد اتخذت هذه البيروقراطية الطابع الأنطولوجي مع سامسا الذي اضطرب في عز صرصوريته بسبب تأخره عن الوظيفة. أما عبثيّو كامو بالإجمال، فليسوا سوى مبالغة لانهائية لمتطرفي دوستويفسكي.

لا يمكن فهم العالم، حسب دوستويفسكي، إلا عبر التطرف، لا مواقف عادية فكل شخصياته هي مبالغات لانهائية لصفة ما.

أبرز صورة لإنسان العصر هي صورة الإنسان اللاهث.
عندما كان في منفاه السيبيري طلب من شقيقه أن يزوده بالكتب التالية: نقد العقل المحض لكانط، فلسفة التاريخ لهيغل والقرآن ..."إن حياتي متوقفة على هذه الكتب الثلاثة"، بهذا أنهى رسالته لشقيقه. هل حياة دوستويفسكي في منفاه كانت بالفعل متوقفة على هذه الكتب؟ طبعاً لا. إنه التطرف الذي يعتريه والذي خلعه على جملة شخوصه. إنه التطرف المتوتر والذي لا يلبث أن يتبدد لحظة مجالسته أصدقائه الثلاثة في هذا المنفى الشاسع: كلب أجرب، نسر مشلول والكتاب المقدس.

لدى نشره رواية "الشياطين"، جوبه دوستويفسكي بنقد لاذع لأنها عُدّت بمثابة حجب الثقة عن العالم والرب في آن معاً، بسبب ما تحفل به من "تهريج صاخب". فقال رداً على منتقديه، وكأني به يستحضر "الجوكر" في الفيلم الذي أخرجه تود فيليبس: "أريد أن أنطق ببعض الأفكار ولا يهمني أن ترمى الجوانب الفنية فيما أقول إلى الكلاب (...) سوف أقول كل ما في قلبي".

في مقابلة مع غلوكسمان في العام 2012، قبل وفاته بثلاثة أعوام، شبّه شيطان دوستويفسكي (ستافروغين) ببن لادن: الأول لأنه رأى أنه إذا إختفى الله فكل شيء عندها مباح، والثاني لأنه رأى أن الإيمان المطلق بالله يجعل كل شيء مباح.

... ومع هذا ثمة حبّ، طالَب دوستويفسكي قرّاءه به، كواجب إخلاقي اتجاه الذات. حب الإنسان لمصيره، أي ذلك الإذعان للضرورة والذي يجعل المأساة احتفالاً.

في "هذا هو الإنسان"، يستجيب نيتشه بعمق لدعوة دوستويفسكي فيقول:" الأمور ذات الطابع الضروري لا تؤلمني، حبّ القدر هو جبّلتي العميقة".

الخاتمة: عندما كان دوستويفسكي في مدينة درسدن الألمانية، كان نيتشه على بُعد ساعة منه في مدينة ناومبورغ... هلا تخيّلنا الحوار السريع الذي كان ليجري بين شياطين دوستويفسكي وشياطين نيتشه فيما لو التقى الرجلان؟

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024