الهروب إلى الريف

محمد حجيري

الإثنين 2021/07/19
من دون شك، أن انقطاع كهرباء الدولة، والتقنين القاسي في كهرباء الاشتراك (أحياناً يكون المولّد في انقطاع تامّ لأسابيع بسبب الأعطال وصلافة صاحبه)، إضافة إلى انقطاع المياه، عدا عن الملل من السكن في مكان واحد، وشعور أولادي بالاختناق بين أربعة جدران في غرف ضيقة، بعد إغلاق المدارس وتقلّص وسائل الترفيه وإقفال مدن الملاهي بسبب الكورونا والغلاء الفاحش... هذه كلها أمور جعلتني أغادر أطراف المدينة إلى أقاصي الريف، ذلك المكان الذي غادرته منذ مراهقتي، حالماً بعالم آخر، يلبي طموحاتي الحياتية والمعيشية.

والحال إن علاقتي بالأمكنة، شهدت الكثير من التحولات والتبدلات والأمزجة بحكم العمل والعمر والطموحات ورغبات الحياة، وحتى العلاقة بالثقافة وأنشطتها. ففي مرحلة ما، قبل أن ألجأ إلى أطراف المدينة، كنتُ في شبه قطيعة مع الريف وعالمه وأجوائه وناسه وتقاليده، مسحوراً بمنطقة رأس بيروت ومقاهيها وأرصفتها ومطاعمها، ليلها وناسها وكتبها وصحفها وأوهامها ونميمتها... كانت منطقة رأس بيروت كبيت كبير، نختار شرفته في المقهى ومطبخه في المطعم، وقد عشنا سنوات صاخبة متخمة بالتفاصيل اليومية والأحلام الكبيرة، وفي لحظة حاسمة وجدتُ نفسي في حالة اغتراب مع المباني العالية والزحمة وصخب الشارع. وما كنتُ أحسبه نعمة وامتيازاً، صار عبئاً ثقيلاً وانتحاراً بطيئاً في السهرات، فكان عليّ المغادرة أو الهروب إلى مكان يقترب من المدينة ولا يبتعد عن الريف، ويتناسب مع إمكاناتي المادية. أمور كثيرة تبدّلت منذ غادرت المدينة، ومعظم الذين نشأت معهم في شارع الحمرا، إما غادروا المدينة إلى أماكن متفرقة، أو ماتوا بطريقة تشبه الانتحار، أو هاجروا إلى مدن أكثر طمأنينة واستقراراً...

لم يكن في الحسبان أن يغرق لبنان في الأزمات الكبرى، من جائحة كورونا إلى ارتفاع الدولار والغلاء الفاحش، وسرقة أموال المودعين، والاضطراب السياسي وسلاح حزب الله. عناوين عريضة وقاتلة، دفعت آلاف اللبنانيين إلى الهجرة بحثاً عن رغد الحياة، وكثر منهم غادروا المدينة عائدين إلى قراهم، بحسب "الدولية للمعلومات"، لأن حياة المدن لم تعد تُحتمل في ظل انقطاع الكهرباء والحرارة المرتفعة والمتطلبات الكثيرة...

شخصياً، الأزمات جعلتني أعيد اكتشاف الريف. فجأة، شعرتُ أنّ بيتي عند أطراف المدينة أشبه بسجن يومي، تابوت كبير عليّ التخلص منه. "نق" أولادي وطلبهم الخروج الى مكان للهو واللعب، أمور سرّعت في مغادرتي المكان إلى الريف، وهناك وجدت نفسي كأني في فضاء مختلف، كأني في عالم روائي. عند أطراف المدينة، كنت أنام في لحظة موحشة، شاتماً نباح الكلاب الشاردة التي زادت مع الأزمة الاقتصادية وعدم القدرة على اطعامها... وفي أقاصي الريف بت أستيقظ على أصوات عشرات الديوك المتنافسة على استقبال الفجر، وأنا إما أكتب بعض المقالات أو أقوم مندفعاً الى النكش في الأرض وزراعة البندورة والفيلفلة والصعتر والخيار، كنوع من تزجية الوقت وتحريك جسمي الخمول، وليس تلبية لدعوة الزراعة على الشرفات التي أطلقها زعيم حزب الله، حسن نصرالله. كل يوم اتأمل الشتول ونموها وأسقيها بدلال، وأنتظر قطف ثمارها، كأني أعيش نوستالجيا متوهمة الى طعم الخضر الطبيعية الخالية من المواد الكيماوية...

تغيّرتْ وتيرة الحياة في الريف، مع أن الأسئلة نفسها نسمعها في كل مكان عن سعر الدولار، وماذا سيحصل الآن؟ هل تتشكل حكومة؟ هل يوجد بنزين؟ فضلاً عن أن طموحات شباب الريف لا تختلف عن طموحات شباب المدينة، وهي التفكيرة في الهجرة بعد انسداد أفق الوظائف العامة وانهيار العملة الوطنية...

أولادي وجدوا ملاذهم في الريف، وجدوا أصدقاء وأقرباء لهم يلعبون معهم، وأحياناً يطاردون القطط أو يطعمونها في الدار الجدة... في عيشهم الريفي، كأنهم ينتقمون من العيش في المباني التي تفرض على الأطفال الانضباط، فهناك حتى اللعب بالدرجة الهوائية يمكن أن يشكل إزعاجاً للجيران...

بتُ الآن في حيرة جديدة. بحُكم عملي ومدرسة ابني، لا استطيع البقاء طويلاً في الريف.. هل أعود إلى أطراف المدينة، مع بدء العام الدراسي الجديد؟ هل أعود الى الكهرباء المقطوعة والمياه المقطوعة؟ أم أبقى في أقاصي الريف، هارباً من "جهنم" الوطن، وجهنم السياسة؟ من المبكر معرفة ماذا أريد، طالما أن صانع "جهنم" ما زال يحكمنا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024