بعد الانفجار.. وحش العقار: لعبة ديموغرافية من زمن الحرب

محمد حجيري

الخميس 2020/08/13
خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية، كانت بعض الجماعات الاهلية والحزبية والفئوية، تعتمد أسلوب التشبيح والسلبطة والاحتلال والهيمنة لتهجير المواطنين في بيروت والمناطق، ومن ثم شراء منازلهم واملاكهم وعقاراتهم بثمن بخس، أو حتى بلا ثمن (من زقاق البلاط، الى الكرنتينا). حصلت مجازر ديموغرافية في بيروت في السبعينيات والثمانينيات، بفعل سياسة السلبطة والرصاص، وفقدت بيروت وجهاً من وجوهها الثقافية، سواء لناحية سكانها الآتين من أعراق وإثنيات مختلفة، او لناحية عماراتها متعددة الهندسات والملامح، وكان التهجير بداية للتدمير الثقافي والانساني...

كان الميليشياوي المسلح في المناطق التي يتواجد فيها بعض المسيحيين أو الأرمن أو حتى البيارتة، يبدأ باطلاق النار في الهواء أو على البيوت، ثم تأتي مجموعة وتقيم مركزاً عسكرياً أو حاجزاً تشبيحياً، وبالتالي تبث الذعر والقلق في نفوس المواطنين، فلا يكون أمامهم، وهم الباحثون عن الطمأنينة، سوى بيع أملاكهم والهجرة، أو اللجوء إلى الكانتون المتوافق مع طائفتهم. كان الفرز ممنهجاً، والاستيلاء على المناطق والعقارات ممنهجاً وليس اعتباطياً... فبعض الأحزاب يعتمد التهجير والتغيير الديموغرافي جزءاً من إيديولوجيته، ثقافة التهجير بأقنعة أو من دون أقنعة. وعلى هذا، ليس غريباً أن يجد وحوش العقارات في انفجار المرفأ، فرصة للانقضاض على ما تبقى من بيروت القديمة، قبل أن يجف الدم وقبل أن ترفع الأشلاء والجثامين، وقبل مسح الدموع ورفع الأضرار، وحتى قبل اكتمال العزاء. ليس غريباً أن يجد وحوش العقارات فرصة للانقضاض على المباني الأثرية، بدلاً من أن يفكروا في مساعدة الناس على إعادة ترميم بيوتهم وغرفهم... يفكر الوحوش بتشييد الأبراج وتغيير المعالم والربح السريع...

يتسابق وحوش العقارات لحجب السماء والبحر والجبل وهدم أي ذاكرة للبشر. بالطبع ليس بعض الناس أقل جشعاً من السماسرة ووحوش العقارات، فهم يجدون في لحظة الخراب فرصة للتخلص من عقارات صُنّفت تراثية، يجدون في لحظة الخراب فرصة للحلم بالعملة الصعبة والثروة... لا يحب بعض الناس عقاراتهم الجميلة، بل يحبون ثمنها الباهظ، لا يحب العقاريون المباني التراثية، بل يحبونها ردماً وركاماً وطعاماً للجرافات والشاحنات، يحبونها مشروعاً ربحياً بشعاً. هم دكّوا ما استطاعوا من أبنية، وينتظرون الفرصة للانقضاض على ما تبقى. والأمر خطير، في ظل الاقتصاد المتردي والفساد النوعي والأمن المتفلت.

كان انفجار المرفأ كافياً ليشعر كثيرون باليأس، أو ليمارس بعضهم انتهازية ما... كان الانفجار لحظة لنكتشف أو يتبين لنا، أن بعض الناس أخطر من الانفجار، أو هم يصنعون في كل مرة انفجاراً جديداً.

آلاف المباني التراثية من الزمن العثماني والفرنسي، تضررت أو هُدمت بفعل الانفجار... آلاف المباني هي ما تبقى من وجه بيروت القديم، نجت من دبابات الحرب وجرافات السلام، الآن ينتظرها وحوش العقارات والسماسرة... فإذا لم تتصرف الدولة بحزم في منع البيع واستغلال اللحظة المأسوية، سنكون أمام كارثة ثقافية جديدة، وانفجار من نوع آخر. إعلان وزير الثقافة في الحكومة المستقيلة، عباس مرتضى، منع اجراء أي معاملة بيع أو تصرف او تأمين تتعلق بالعقارات المتضررة من كارثة تفجير المرفأ، ومنع تسجيلها في الدوائر العقارية الا بعد الانتهاء من كافة اشغال الترميم وبعد موافقة وزارة الثقافة.. ثم إعلان وزير المالية، غازي وزني، تعميماً يتعلق بمنع بيع العقارات ذات الطابع التراثي والتاريخي أو ترتيب أي حق عيني عليها إلا بعد أخذ موافقة وزارة الثقافة، هو جهد جيد، لكن هل هو كافٍ في ظل أزمة اقتصادية خانقة، وازدادت وطأة بعد الانفجار؟ هي يحظى الناس أيضاً بتطمينات أن ثمة من سيعيد إعمار بيوتهم التي لا ذنب لهم في تهدمها؟ وماذا عن الفساد؟ ألا يستطيع خرق التعاميم الوزارية والمنع بأساليبه الملتوية المعروفة والمشهود لها بـ"الكفاءة"؟

الوحش يريد موت منطقة الجميزة ومار مخايل، يريدها بلا حياة وبلا سهر وبلا روّاد...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024