همّة نضال الأشقر

روجيه عوطة

الثلاثاء 2019/03/12
قد يكون الاستفهام الأساس الذي يطرحه شغيل الثقافة في بيروت على نفسه هو: كيف من الممكن أن أبقى محفَّزاً على الاستمرار في ما أفعله، وهذا، في بلد لا مبالغة في وصفه بالمحتبس؟ الأجوبة كثيرة، منها العيش في الطوابق العليا، أو الغرق في "فايسبوك"، أو الاحتماء بالكره، أو التنقل بين الداخل والخارج... 

لكن لنضال الأشقر، جواب خاص بها، وهي لا تزال ترد به على ذلك الاستفهام منذ عقود كثيرة: الانغماس في عمل، لا شيء سوى الانغماس في العمل. فلهذه الفنانة همة لا يمكن سوى ملاحظتها، وبشكل دائم، على هيئتها، ولا يمكن، فعلياً، سوى التوقف عندها، بحيث أنها صارت شبه مفقودة في بيروت، وفقدانها، في الكثير من الأحيان، يحمل على كتمه بافتعال الضجيج المستمر.

لأن الأشقر تبدو، ومع كل إطلالة لها، أنها كانت هناك، في بيروت المنصرمة، بيروت الزمن الجميل، وها قد وصلت منها للتو. فنافل القول إنها تستمد همتها منها، أو بالأحرى من صلة محددة معها. فهي تحبها، معتقدة انها مطرح الحرية، وأنها محل الإبداع، وأنها، في مَشرقها، ليست منارة فحسب، وإنما مرفأ بأكمله أيضاً. الا أن همة الأشقر، التي تنم عن حبها هذا لبيروت، غالباً ما تبرز كدفاع عنها، عن وجود الأشقر، محاولة التأكيد عليها، أو مواصلتها. كما لو أن الحرب التي قضت عليها، حصلت بالقرب منها، أزعجتها، جعلتها تضطرب، وعندما راحت تحتدم، تركت جرحاً طفيفاً على جلدها. كل هذا صحيح. لكن المهم، أنها لم تهدمها. فالحرب كابوس، يعتري بيروت الغافية، والأشقر أخذت على عاتقها ايقاظها، ولا تزال تؤمن بأنها ستصحو.

لا تهز الأشقر مدينتها النائمة بيد امومية، بل بيَد تصادقية، فهي ليست ابنتها، بل رفيقتها، التي كانت في جوارها، وفجأة، وقعت في غيبوبة، وتخشبت. لذا، تواظب على البقاء إلى جانبها، على اخبارها ماذا يحدث من حولها الآن. وهكذا، حين تستيقظ في الغد، لن تجد شيئاً غريباً، بل أن كل شيء سيكون مألوفاً بالنسبة إليها. ثم أن الأشقر، وببقائها إلى جانب رفيقتها، تحرسها، وتمنع أي أحد من التفكير في دفنها، أو في حسبان أن عودتها إلى الحياة أمر محال، وهذا من دون أن تفرض عليه القعود معها.

فلطالما كانت علاقة الأشقر بالحاضر، حاضر بيروت، مميزة، بحيث أنها لا تخاف منه، ولا تستسلم له. تجادله، تناوره، ومرات، تمتحنه. وعلى الدوام، تظهر له بتلك الطلعة التي تشير إلى كونها هي التي سمحت به، مذكّرة إياه بأن لولاها، لولا رفيقتها، لما كان موجوداً. الأشقر تحب الحاضر، لكن قلبها في مكان آخر، ولا تجلبه منه، كي لا يباغتها بكونه مفطوراً.
 
من مسرحية إلى أخرى، ومن مهرجان إلى آخر، تحافظ الأشقر على همتها، تزيد منها، كأنها هي نفس بيروت الغائبة، دليل على أنها لا تزال حية، وأنها، وعلى عكس ما يشاع، لم تمت.

همة الأشقر تشهد على كون رفيقتها قد تغدو، وفي أي لحظة، هنا، وذلك، مع انها هناك. وهي تشهد لأنها تأمل، لأنها تتمنى. وربما، لأنها تعبت، تعبت من رفيقتها، من انتظارها، من أخبارها، من كون الذين يصدقون احتمال رجوعها من الغيبوبة صاروا قلة قليلة للغاية.

ورغم ذلك، ها هي الجامعة اللبنانية الأميركية توجه تحية إليها في افتتاح الدورة الثالثة من مهرجان "نكست"، كأنها بهذا تحضها على مواصلة همتها، وعلى مواصلة حبها لرفيقتها. وفي هذه المناسبة، سيجري عرض فيلم عن الأشقر من إخراج سابين الشمعة، وبالتعاون مع لينا أبيض. كما ستعرض مسرحية من تمثيل برناديت حديب وندى ابو فرحات، وإخراج عوض عوض وعمرو سليم....فتحية إلى نضال الأشقر! 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024