مصر... من العزلة إلى الاختلاء

شادي لويس

الأحد 2020/06/28
فُتحت المقاهي في القاهرة أبوابها أخيراً، الأصدقاء الأكثر شجاعة أو الأكثر تململاً يشاركون صوراً لهم على الكراسي المرصوصة فوق الأرصفة، دور العبادة فتحت أيضاً، صور لصلاة الفجر في المساجد مع الكمامات. الحياة تعود إلى طبيعتها، تدريجياً، فيما أرقام الإصابات والوفيات في ارتفاع متواصل، لا منطق بالطبع وراء رفع القيود، سوى الدوافع الاقتصادية. منذ البداية كانت القيود في معظمها شكلية. ومع هذا فإن الكثيرين منا يتعاملون مع قرارات إعادة الفتح، على إنها علامة على زوال الوباء، لا في القاهرة وحدها بل في كل مكان آخر. لا يحدث بشكل واعٍ، بل طبقا لمؤشرات شعور عام. تقديرنا، كأفراد، للخطر يبدو مركزياً وجماعياً، يأتي من أعلى، ولا يتقيد دائماً بالمنطق ولا بالحقائق، بقدر تعلّقه بسلطة ما، وبإيماءات جماعية.

الدولة الحديثة التي فككت كل مصدر سابق عليها للسلطة أو ابتلعته داخلها، أضحت قرارتها هي محور شعورنا بالطمأنينة والخطر، خاصة حين يتعلق الأمر بالمجهول، بما هو فوق قدرة الفرد أو الجماعة الصغيرة. الشعور بالذنب الذي كان يلاحق غير الملتزمين بالانعزال يتبدد فجأة، مع صدور قرارات إعادة الفتح. كان لماكينة الدولة الضخمة، لإنتاج المشاعر اليومية وتشكيلها، أن تكون المجال الرئيس للعلوم السياسية، لكن خطأ، في الأغلب كان متعمداً، فصل بين علم النفس ودراسات السياسة منذ البداية، ولذا ربما ضلّ كلاهما الطريق بشكل أو بآخر. 


العزلة التي كان يتكلم عنها الجميع تقريباً، لم تعد موجودة بقرار رسمي، أو على الأقل أضحى واضحاً إن أمر اختفائها لن يأخذ كثيراً من الوقت، مرة أخرى كانت القيود صورية، لكن شعورنا بالوحدة من عدمه، ليس بالضرورة مرتبطاً بقربنا أو بعدنا عن الآخرين أو بالوقائع المادية إجمالاً. في البداية تبرّم الكثيرون من أن عزلتهم أضحت قسراً، مفروضة وغير اختيارية، بعض منهم ربما كان في الحقيقة يتبرّم من أنها أضحت مشاعاً وفقدت خصوصيتها، تكاد أن تكون مفروضة على الجميع بالتساوي، لم تعد امتيازاً ولا ثمنا أو تضحية تخص فرداً أو فئة بعينها.

التمييز الذي وضعته الفيلسوفة الأميركية حنه آرنت بين العزلة والوحدة في كتابها "أصول الشمولية" لا يبدو متماسكاً. فالأولى ظاهرة سياسية بحسبها، مفروضة من سلطة استبدادية تسعى لفصل المواطنين عن بعضهم بعضاً، تحويلهم إلى أفراد مقطوعي الصلة بالآخر، العزلة هي عجز عن التواجد في المجال العام والمشاركة فيه. أما الوحدة، فكما تقول، هي تجربة وجودية، هي عجز عن التواصل مع الآخر، وعن إقامة علاقة شخصية معه. العزلة ظاهرة تتعلق بالعام والوحدة في المقابل ظاهرة مكانها المجال الخاص. هشاشة ذلك التمييز تكمن في هشاشة تقسيمه العام /الخاص الذي يعتمد عليها، تلك التقسيمة التي أضحت مع الوقت مدعاة لمزيد من النقد، في زمن أصبح شعاره الاحتجاجي: "الخاص سياسي أيضاً". 
لكن آرنت لم تر في أن يكون المرء مع نفسه شراً كاملاً، فالاختلاء كان مفهومها الثالث، وعلى العكس من العزلة والوحدة، لم يكن نوعاً من العجز. الاختلاء هو أن المرء ومع انفراده يكون في صحبه آخر، وهذا الآخر هو نفسه، أي يكون الشخص أثنين في واحد، الاختلاء كما تذهب، هو أصل كل تفكير ووعي ذاتي. 

تُرفع العزلة بقرار رسمي أخيراً، لم يتغير شيء بالنسبة للكثيرين، أي هؤلاء المرغمين من البداية على المخاطرة، أصحاب المهن الأساسية ومن لم تشملهم الوحدة الإجبارية لأي سبب آخر. أما الذين اعتادوا العزلة، ويتابهون بها أو يتبرمون من تعميمها، فوحدتهم تغيرت فجأة، فلم تعد اختيارية فقط، بل وامتياز أيضا، خاص واستثنائي، يمكن الخروج منه والعودة إليه في أي وقت، وهكذا تنقلب عزلتنا إلى اختلاء، ككل شيء آخر، بقرار رسمي. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024