نساء الثورة المنسية.."شعور أكبر من الحب"

حسن الساحلي

الأحد 2018/04/15
يوثق فيلم "شعور أكبر من الحب" لللبنانية ماري جرمانوس سابا (عرض ضمن فعاليات "شاشات الواقع" في سينما متروبوليس) بعض أوجه الحراك المطلبي الذي شهده لبنان قبل الحرب الأهلية، مستعيناً بعينة صغيرة كانت فاعلة يومها، يغلب عليها الحضور النسائي. 


في تلك الفترة، النساء كنّ أكثر حضوراً في العمل الإحتجاجي والسياسي اليساري، باختلاف نماذجهن وانتماءاتهن، وقد انتهت تلك المرحلة عملياً مع بداية الحرب، التي أصبح فيها المجال العام مخصصاً للذكور فحسب. يخبر الفيلم بعيون شخصياته حكايا مرحلة مفصلية في تاريخ لبنان والحرب الأهلية، أصبحت شبه منسية، رغم حضورها الشبحي في الإحتجاجات التي شهدها لبنان في العامين 2011 و2015، طارحاً تساؤلاً عن إمكانية الإستفادة منها عند القيام بعمل إحتجاجي في هذه الأيام.

يسرد أفراد العينة التي اختارتها سابا قصة الإحتجاجات: أسبابها وسياقها، كل فرد يروي عن دوره ومشاركته الخاصة. تتخذ المخرجة موقفاً موضوعياً في الظاهر من شخصياتها، حيث تصور العمل على طريقة الوثائقي أو التلفزيوني، لكن الذي لا يلبث أن يتحول "روائياً"، يركز على دائرة صغيرة من الأفراد، يقترب منهم بطريقة حميمية أحياناً، حيث يتبنى أحاسيسهم، قلقهم، ومواقفهم الملتبسة (من المشاهد التي تظهر مدى اقتراب المخرجة من شخصياتها، تلك التي تظهر "الرفيقة وردة" ممددة على السريرفي غرفة منزلها الباريسي ، وهي تتحدث مع زوجها السابق عبر الهاتف، لسؤاله عن بعض تفاصيل تلك المرحلة).
 

الشخصيات التي يرتكز عليها الفيلم، هي أولاً نادين عاقوري التي تعتبر الأكثر ظهوراً. مناضلة قومية يسارية، سمت نفسها الرفيقة وردة على اسم وردة بطرس ابراهيم، التي تعتبر أول شهيدة للطبقة العاملة، قتلت على يد الجيش في مظاهرة أمام معمل الريجي في العام 1946. الشخصية الثانية التي كانت فاعلة يومها في الإحتجاجات، عامل في معمل غندور ساهم بسبب شخصيته القيادية بالتأثير على العمال الآخرين، والتحول عقلاً مدبراً خلال بعض مراحل الإحتجاج، وتحديداً خلال فترة احتلال مبنى الريجي في الجنوب، والتظاهر لفك الحصار عن المعتصمين داخله.

تظهر خلال الفيلم مقاطع من أغاني لمارسيل خليفة وأحمد قعبور، بالإضافة إلى أفلام نضالية للراحل كريستيان غازي، برهان علوية ومازاو أداتشي. تنقل هذه الأفلام بعض خطابات تلك الفترة، ورؤيتها للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية التي يجب أن تخلق "واقعاً ثورياً"، يجب استثماره. اختارت المخرجة بعض شخصياتها النسائية من عاملات غندور اللواتي ظهرن في أحد تلك الأفلام.

تختلف طبعاً هذه النماذج عن نموذج "الرفيقة وردة"، طالبة الجامعة القادمة من خلفية برجوازية. تنتمي العاملات إلى طبقات فقيرة من الجنوب، عملن لفترة في شك التبغ، قبل انتقالهن إلى العاصمة للعمل في معمل غندور. يركز الفيلم على شخصية واحدة من تلك النسوة التي تخبر تفاصيل قصتها وظروف عملها في المعمل، بإيجابياتها وسلبياتها، ثم دورها في الإحتجاجات ومصيرها اللاحق بعد اندلاع الحرب.

تحاول سابا رسم صورة لامرأة أخرى شاركت في الإحتجاجات هي فاطمة خواجة التي قضت برصاصة في إحدى التظاهرات في ساحة معمل غندور، حيث تجري مقابلة مع صحافية كانت مقربة منها، كتبت مقالاً إثر موتها. تتشابه قصة فاطمة خواجة مع قصص العاملات الأخريات، فيتحدث المقال عن عملها السابق في التبغ ومجيئها من الجنوب إلى بيروت، ظناً منها أنها ستجد ظروفاً أفضل. تزور سابا مكان عيش خواجة السابق، وتحاول الإتصال بأخيها، الذي يهزأ مما تقوم به، وينصحها بتصوير فيديو كليب عوضاً عن الفيلم.  

يظهر خلال السرد التناقض بين الشخصيات، الذي يتجلى في التناقض الطبقي بين العمال وأعضاء الأحزاب المتمثلين في الفيلم بنادين عاقوري التي تعطى إشارات متكررة، تؤكد أنها مسكونة بفكرة استغلالهم الممنهج للعاملات. تتحدث عاقوري عن سبب دخولها العمل السياسي مظهرة نظرةً رومانسية نحو الشعب والطبقة العاملة اكتملت بزواجها من مناضل أدخلها في أجواء العمال في معمل غندور.

تعدد الرفيقة وردة بعض المراحل التي تمر فيها عملية التواصل مع العاملات، تبدأ من التجسس عليهن لانتقاء القابلات منهن. تبشيرهن ومناقشتهن، ثم تحفيزهن على دخول النقابات والإحتجاج على ظروف العمل القاسية. تتعزز خلال الفيلم مشاعر الذنب لدى عاقوري تجاه العاملات، حيث يصل إلى أقصى درجاته عند حديثها عن تركها لهن في السجن بعد أن أخرجت بواسطة من الزعيم كمال جنبلاط، العجز الذي أصابها عند سؤال إحداهن عن حقيقية فكرتها عن وجود مساواة بين الناس، وكلامها عن استعمال الأحزاب اليسارية للعمال كـ"دابة" من أجل الوصول إلى أهدافهم، ثم تركهم لاحقاً لمصائرهم بعد فشل الإحتجاجات.

في مكان آخر تؤكد العاملات أن دخولهن السياق الإحتجاجي أتى بمحض إرادتهن، من دون تأثير من أحد، كما يؤكد العقل المدبر لاعتصام الريجي أنهم تصرفوا من رأسهم من دون أي إيعاز من الأحزاب،. يبدو أن كلام الإثنين أتى إجابةً على سؤال طرحته صانعة العمل، التي لا تظهر نهائياً في الفيلم، لكن تبدو من خلال أسلوبها والتأثيرات الفنية التي تستعملها، مسكونة مثل شخصياتها بالتناقض الإجتماعي والطبقي بين المشاركين في الإحتجاجات، طارحة سؤالاً غير معلن عن سبب تحول الحركة الإحتجاجية إلى حرب أهلية، ما يحيل إلى التساؤل عن المسؤولين الفعليين بين هؤلاء المحتجين عن ما حصل؟


يفتح هذا السؤال في الجزء الأخير من الفيلم نقاشاً حول العامل الطائفي وانتماء معظم المحتجين إلى الطوائف المسلمة. فيسرد قصة أمكنة الإحتجاج: طرقات الجنوب التي شهدت التعبئة ومناداة الناس للمشاركة بالتظاهر، تقاطع كفرمان النبطية المجاور لمعمل الريجي، وطريق صيدا القديمة الذي شهد  تظاهرات عدة، وتحول لاحقاً خط تماس يفصل بين عين الرمانة والشياح، حصل بالقرب منه اطلاق النار على "بوسطة عين الرمانة" القادمة من مخيم تل الزعتر. تسأل إحدى الشخصيات في لحظة الذروة: عند انتهاء التظاهر ليلاً، لماذا يعود معظم المحتجين إلى الشياح وليس إلى عين الرمانة؟

رغم حديث الشخصيات في نهاية الفيلم عن الواقع الطائفي لتلك المرحلة، يبدو إنكار ذلك الواقع سيداً في أجزاء الفيلم الأخرى، خاصة عند ترداد عبارة "حوّلوها طائفية"، وهو الذي تقع فيه المخرجة أيضاً حين تكبل نفسها بموضوعها، مظهرةً وجهات نظر المحتجين فقط، وليس أولئك  الذين وجهت الإحتجاجات ضدهم، من أصحاب المعامل المتحالفين مع السلطة التي تلمح إحدى شخصيات الفيلم أنها اشعلت فتيل الإحتجاجات وقتلت المتظاهرين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024