"آخر الرجال في حلب" ممنوع في الجزائر..ولا أحد يحتجّ!

راشد عيسى

الجمعة 2018/09/14
قالت صحف جزائرية إن وزير الثقافة عز الدين ميهوبي "أمر برفض عرض الفيلم الوثائقي "آخر الرجال في حلب" للمخرج السوري فراس فياض" بعدما أُدرج وأعلن في برنامج عروض "أسبوع آفاق السينمائي" في الجزائر المنعقد من 8 الى 10أيلول/سبتمبر الجاري.

الخبر جاء تحت عنوان "ميهوبي يجنّب الجزائر أزمة دبلوماسية مع سوريا وروسيا"، ومن المرجح أنها صيغة للتحايل على حقيقة أن النظام السوري ضغطَ من أجل عدم عرض الفيلم. 

فوق ذلك لم يكن خبر الصحيفة محايداً عندما ذُيّل بمقطع يقول: "عمد الكيان الصهيوني إلى إخراج "الخوذ البيضاء" (والفيلم يتحدث عن مجموعة عناصر "الخوذ البيضاء") من حلب نحو تركيا، بعد سيطرة الجيش السوري مدعوماً بالطيران الروسي على المدينة، في ظل اتهام الحكومة السورية للخوذ البيضاء بفبركة سيناريوهات، ومن بينها اتهام الجيش العربي السوري باستخدام السلاح الكيماوي، ما أدى بأميركا إلى توجيه ضربات صاروخية ضد مواقع عديدة بريف دمشق".

ومع أننا لسنا بصدد مناقشة خبر الصحيفة، إلا أنه لا بد من التذكير بأن الصحيفة الجزائرية تزوّر حتى الواقعة التي بنى عليها نظام الممانعة اتهامه لـ"الخوذ البيضاء" بالتعاون مع إسرائيل. فالحادثة المقصودة بالخبر، كانت طلباً من الأمم المتحدة من إسرائيل السماح بعبور مجموعة من "الخوذ" من أبناء الجنوب السوري ليعبروا، مجرد عبور، من الجولان المحتل نحو الأردن تمهيداً لتوطينهم في أوروبا. 

لقد كان هذا دائماً شأن الحكومة الجزائرية في مواقفها من الثورة السورية. فسجالاتها في "الجامعة العربية" كانت منحازة وداعمة للنظام السوري، وليس غريباً أن تمنع اليوم فيلماً يكشف حقيقة أكاذيب النظام الممانع وحلفائه الروس.

أما لماذا يثير الفيلم الوثائقي "آخر الرجال في حلب" (ظهر العام 2017) الذعر في قلوبهم، فلأنه يقول الحقيقة العارية التي لا يمكن إنكارها، وتدحض أكاذيبهم. إذ يتابع الفيلم مجموعة محلية من "الخوذ البيضاء" (وهي منظمة تأسست بجهود السكان، كلٌّ في منطقته، بعدما عمد النظام السوري والطيران الروسي إلى قصف كل إمكانيات الإغاثة، من مستوصفات وسيارات إسعاف ومشاف ميدانية حتى بات مستحيلاً دخول أو بقاء منظمات إغاثية أو طبية دولية).. كيف تعيش يوميات الحرب، وكيف تشير بالاسم إلى الطائرات التي تقصف، وكيف نراها بالعين المجردة تقصف الأحياء المدنية، فنرى أي ضحايا يخرجها هؤلاء من تحت الأنقاض، وهي دائماً لمدنيين أطفال ونساء. نرى كيف استُهدف رجال "الدفاع المدني" أنفسهم، بل إن البطل الأساسي الذي تتابعه الكاميرا (صُوِّر الفيلم من قبل خمسة مصورين، كما قال مخرج الفيلم فراس فياض لـ"المدن") يلقى حتفه في نهاية الفيلم. وكنا، كمتفرجين، قد عايشنا تفاصيل حياته أمام الكاميرا، علاقته مع أبنائه واتصالاتهم الهاتفية المتكررة به، اللعب مع الأطفال، ممازحة رفاق العمل والسهر معهم، وكذلك صعوبات العمل. كما تشير تترات الفيلم النهائية إلى أسماء بعض رجال "الخوذ" الذين ظهروا في الفيلم ولقوا حتفهم أثناء عملهم.


يعرض الفيلم كيف حوصرت تلك المجموعة، فيما يتحدث عناصرها عن مجموعات أخرى لـ"الدفاع المدني" في أحياء مجاورة استُهدفت وباتت خارج الخدمة، وكيف باتوا عالقين مع آلاف المدنيين تحت الحصار.

الفيلم وثيقة سينمائية خطيرة، كشهادة مفرطة في الواقعية تدل على القتلة، كما على الضحايا. فأي عين مدربة ستدرك أنه يستحيل تلفيق وفبركة هكذا مشاهد. هنالك كوادر وصور وحوارات وشخصيات لا يمكن أن تخطر في بال مَن يتعمّد التزوير. هذا عدا عن أنها ليست مَشاهد نادرة، لقد شاهدنا مثيلاتها في فيديوهات جاءت من كل بقعة وحيّ في أرجاء البلاد. لكن أهمية هذه الشهادة أنها عمل سينمائي متقن، الأمر الذي يسمح له بالظهور في مهرجانات وتظاهرات عالمية.

لكن السؤال الآن: لماذا هذه السهولة في سحب فيلم بعد إدراجه في تظاهرة سينمائية من دون أن يحدث الاستنكار والاعتراض اللازم؟!

كان لافتاً أولاً أن الجهة المنظمة للتظاهرة، وهي "الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق"(*)، لم تنبس ببنت شفة. لقد سُحب الفيلم ولم نسمع أي اعتراض على ذلك. "آفاق" تتصرف بذلك، كما المراكز الثقافية الأجنبية التي كل همّها أن تسجل في أجندتها مرور الفعالية بسلام. لكن السينما ليست سلعة نحرص على بيعها بأي طريقة، إنها وسيلة للكشف والقول والتعبير، ولا شك أن الاحتجاج على منع فيلم يقع في صلب العملية الثقافية. إنه يصب في النهاية في خدمة السينما.

كذلك، لم نعثر على موقف أو بيان واحد من زملاء مشاركين في التظاهرة، مخرجين أو منتجين، يحتج أو يتضامن مع الفيلم. لم يعترض أحد، ولعلهم قالوا لأنفسهم ما دامت جلودنا سالمة، فمالنا ومال الآخرين.

لقد أثبت الإعلام الممانع، في مناسبات مماثلة، كواقعة سحب فيلم للمخرج الموالي لنظام الأسد جود سعيد من "مهرجان السينما العربية" في "معهد العالم العربي" في باريس أخيراً بعدما كان قد أُدرج في البرنامج، أنه قادر على تحويلها إلى قضية ضجت بها مواقع التواصل الاجتماعي، بل واستُثمِرت لاتهام المعارضين بوقوفهم وراء المنع، وأنهم بالتالي مدّعون لحرية التعبير وأعداء للديموقراطية!

في حالة "آخر الرجال في حلب" سنجد أنفسنا إزاء صمت القبور. قلّة علّقت على الأمر، كثيرون صمتوا، ربما من باب عداوة الكار، رغم أن الجميع معرضون لمواقف مماثلة، ورغم أن الاحتجاج هنا كان ليندرج في سياق نضالهم كثوار من أجل الديموقراطية وضد الاستبداد.

بقي أن نقول: ما موقف كل هؤلاء الصامتين عن إسكات فيلم، حين يعلمون أن هناك مقاطعة ثقافية صامتة في الجزائر للفعاليات الرسمية (بحسب مقال لكاتبة جزائرية)، مقاطعة من الجزائريين أنفسهم، احتجاجاً على فساد واستبداد؟ ولعل زوار الجزائر لاحظوا بأنفسهم أي جمهور حظيت به أفلامهم.

تلك المقاطعة تطرح سؤالاً على كل المبدعين من غير الجزائريين الذين يذهبون بحبور لتلبية دعوات لندوات ومهرجانات ومعارض كتب وسواها، من دون تدقيق، فقط لمجرد الحصول على دعوة وإقامة مجانية.

الأمر لا يتوقف عند الجزائر وحدها. فالنقاش لا بدّ أن يطاول بلاداً محكومة، هي الأخرى، بفساد واستبداد مماثل، والأمثلة كثيرة. المقاطعة الثقافية يمكنها أن تكون نوعاً من الحل. ليس علينا تنحية ضمائرنا واختراع المسوّغات في سبيل دعوة وإقامة فاخرة، عابرة. 

(*) "أسبوع آفاق السينمائي" تظاهرة جوالة ينظّمها "الصندوق العربي للثقافة والفنون- آفاق". بعد بيروت والقاهرة وتونس والمغرب والسودان، تستضيف الجزائر دورتها السادسة. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024