شاكر الأنباري... عن مراهقين عراقيين قَتَلة (*)

المدن - ثقافة

الأربعاء 2019/12/04
مراهق لم يصل عمره العشرين سنة، لا تبدو على ملامحه أية تعابير شاذة، يعترف بدم بارد أنه قتل اكثر من عشرة أشخاص بكاتم صوت. ورغم أن الخبر لا يضيف جديداً، ففي السنوات السابقة كنا شهوداً على جرائم مشابهة، وربما اشد فظاعة، ارتكبت من قبل ارهابيين ومجرمين في مختلف مناطق العراق، سواء عرضت في شاشات التلفزيون او رأيناها في الواقع، أو سمعنا عنها. إلا أن المشهد، مشهد المراهق وهو يحصي جرائمه، ويوضح تفاصيل الحدث، يبعث القشعريرة في الجسد، وفي الروح. فكيف لمراهق ان يحتمل ارتكاب هكذا جرائم بضمير مرتاح، وعقل متماسك، ليعود الى بيته، يأكل، ويشرب، وينام. ويحتضن امه واخوته كما لو كان فرداً طبيعياً ترعرع وسط اسرة عراقية مستورة، ومحافظة، ولا تطلب سوى كفاف يومها من الحياة. ورب تفسير شائع، وبديهي، يزيل غموض هكذا نفس مشوهة وهي لما تبلغ العشرين، هو انه قد تم غسل فكره وعقله عبر تعاليم، وفتاوى، وحجج، تسوغ له القتل بدم بارد، الا ان حداثة العمر لا تسمح لضخ فكري، وبأقل من سنتين او ثلاثة، ان يحول هكذا كائن الى سفاح.

القتل بدم بارد، كما هو معروف، يحتاج الى تدريب، والى خبرة، واغراءات حياتية، اضافة الى آيديولوجيا سواء كانت عقائدية أو قومية شوفينية أو عشائرية متخلفة. الأمر الوحيد المقنع في حالة مثل هذه، ليس البحث عن سبب فردي يدفع الى ارتكاب القتل وتقبله لاحقاً من دون الشعور بالذنب، قد يكون من الأصح البحث عن سبب جماعي، عن (آيديولوجيا) مجتمعية عامة، تهيمن بهذه الدرجة او تلك على جزر بشرية في المجتمع لتصبح بديلاً من غسيل المخ الفردي. اي بكلام آخر هناك غسيل مخ جماعي، وثقافة اسمها ثقافة العنف، وتقاليد اسمها تقاليد العنف، هي المياه الجوفية المغذية لمراهقين يتقبلون فكرة القتل.

والحديث عن ثقافة العنف يمكن أن يدخل الباحث، أو المفسر لظاهرة مثل هذه، الى تشعبات وتعقيدات هي تشعبات وتعقيدات المجتمع العراقي ذاته، وما عاشه من تقلبات أحوال طوال عقود ماضية، ولم تحدث النقلة النوعية التي شهدناها بعد اسقاط النظام أثراً واضحاً وملموساً في بنية ثقافة العنف، بل ساعدت في تأصيلها، وفي بعض الجوانب تكريسها، وبلورتها لتصبح قاتلة بامتياز. هنا نقع على مفهوم أدلجة العنف، أي تبريره وتسويغه نظرياً من خلال تتفيه، وتخوين الضحية قبل ارتكاب الجريمة. علماً أنه، في أحيان كثيرة، لا يعرف القاتل وجه القتيل الا عبر الصور، ولم يلتق به الا في لحظة التنفيذ. وهذا ما نشهده اليوم من ظواهر شاذة في مجتمعنا، يمكن لها بسهولة تحويل شاب مراهق الى رصاصة مكتومة الصوت توجه الى أي شخص لهذا السبب أو ذاك.

وأبسط مثال يجري أمامنا في الوقت الحاضر هو انتشار الأسلحة البلاستيكية بين أيدي الأطفال، في كل بيت وشارع، ومن مختلف الانواع، وهو، بشكل ما، انعكاس لذهنية أسرية قبل كل شيء، ولعسكرة مجتمعية تفشت في كل زاوية من زوايا البلد. عسكرة لها بالتأكيد اسبابها ودواعيها، وترسخت كردّ فعل على انتشار الارهاب والعصابات، لكنها ستترك نتائجها السلبية على كل فرد من الشعب، وهذا ما ينبغي الانتباه له. أن يصبح مرأى السلاح مألوفاً، اينما يدير الطفل أو الشخص، عينيه، يعني أن تقبّل وجوده بين الأيدي يصير بديهياً، بل مستساغاً ومبرراً ربما. والمعروف ان وجود سلاح في اليد هو الخطوة الأولى لاستخدامه، ولا تهمّ الذريعة.

ثمة ايضا ترسيخ مجتمعي لفكرة عدم وجود دولة، جاءت بسبب الصراعات السياسية والمذهبية والمنطقية على مفهوم الدولة، وعلى تقاسم السلطة والنفوذ، وهوية العراق، وغير ذلك من ملفات. ذلك التنافر في الإدارة، وعدم التناغم بين الوزارات والمؤسسات، وانكشاف حالات فساد لم تعالج او تحارب، كل ذلك وغيره بدأ يرسخ فكرة عدم وجود دولة في اذهان شرائح من السكان. وثمة من يريد إشاعة هذه المقولة لأغراض سياسية، ليس الهدف منها معالجة هذا الخلل الكبير، بل تدمير كل ما موجود في العملية السياسية. هذا عدا عن وجود ضخ مذهبي، ترتفع حدته بين حين وآخر، وفي بعض المنعطفات السياسية في مسيرة بناء الدولة والسلطة وقوانينهما، من اجل التشكيك في مفهوم المواطنة، وتقديم بدائل هويات ثانوية على الهوية العراقية الرئيسة، كردّ فعل على سنوات من تغييب الهويات الثانوية بصورة إرادوية، قمعية، استخدمت العنف لتمكين هذا الأمر.

وترسيخ الهويات الثانوية وإعطاؤها بُعداً مقدساً أو خارجاً عن النقاش، له نتائج مدمرة على بناء الجيل الجديد في العراق، فتهيئة بيئة مثل تلك، وترسيخها، يجعل منها أداة للصراع في كل وقت، وهو صراع يجر الى تدمير ذاتي اكثر ما يجر الى تنافس نحو الأفضل. صراع الهويات الثانوية اليوم بارز للعيان، ويكاد يكون بديلاً من صراع برامج، ورؤى لتطوير الواقع وبنائه، بما في ذلك عنصره الأهم، الا وهو الانسان. ولا يخفى ان بيئة الاستقرار، المادي والروحي، تراكم على مر السنين روحاً فردية مستقرة، والعكس صحيح، تخلق بيئة قلقة، متشظية، غير منسجمة روحياً، فرداً قلقاً، يسهل توجيهه نحو غايات خاطئة، خاصة اذا ما ترافقت بعوز مادي، وبطالة، ومجالات ترفيه فقيرة. وهذا ما هي عليه قطاعات واسعة من الشباب القت بهم ظروف العراق منذ الثمانينيات وحتى الآن على قارعة الحروب، والهجرات، والتشرد، والعزلة الفكرية والروحية.

هناك إذن استعداد مسبق للإجرام خلقته تلك الظروف، والمجتمع بقواه السياسية وفعالياته الثقافية والأكاديمية ومؤسساته لم يلتفت اليها، وإن التفت اليها لم يولها العناية المطلوبة والسريعة. حياة يومية تفتقد للفرح والتفاؤل والأمل، لا يمكن أن يسود فيها سوى اليأس، في ايام متشابهة، تجر بعضها بعضاً، لتلغي أي دور فاعل لشريحة الشباب.

والإجرام بصورته الخلفية هو بحث عن دور، حتى لو كان دوراً سلبياً ومدمراً، وحتى لو كان دوراً مشترى بالمال، إذ لوحظ أن قتلة كثرا، من نمط ذلك المراهق الذي قتل أكثر من عشرة أشخاص، ارتكبوا جرائمهم من اجل مبالغ زهيدة، وقد يكون القناعة الداخلية، المبنية على افكار وتجربة وقصدية مسبقة، ليست هي المحرك لأولئك القتلة. وإذا ما سلّمنا جدلاً بأن أجيالاً عاشت المأساة العراقية منذ عقود، تشوهت أرواحها وتقبلت فكرة العنف، وربما شاركت فيه، يصعب اليوم لها الفكاك من هكذا بيئة، فما ينبغي عمله هو التفكير في الحفاظ على الأجيال الجديدة الواعدة، اذ هي من سيقود مرحلة بناء العراق المقبلة.

هذه المهمة أمامها بالتأكيد عوائق هائلة، لعل من أبرزها معالجات سريعة للواقع السياسي المتردي، والحاجات المجتمعية غير الملباة، والثقافة الوطنية التي تحولت الى هامش لا يعتد به في الواقع المعيشي.

(*) مدوّنة للكاتب والروائي العراقي شاكر الأنباري، نشرها في صفحته الفايسبوكية، وننشرها في "المدن" بإذنه.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024