عن تصويرة جمانة جمهوري الصناعية

روجيه عوطة

الثلاثاء 2019/05/28
عندما تصور جمانة جمهوري* موضوعها الصناعي، أكان معامل، أو الآلات وخردوات، أو مشهد من مشاهد الإنتاج في عمومه، تقدمه على أساس بعينه، وهو إبداء وقعه، الذي يصعب رده عن العين، أو تجنبه. فمع أن التقاط هذا الوقع في بلدٍ، صناعته ضامرة، كلبنان، يستلزم تثبيتا للنظر، واقرانه بالتشبّه، الا ان الفنانة الفوتوغرافية تعلم كيف تسلك اليه، وتفبركه بتحديدات لونية وضوئية، تتأرجح في الكثير من الأحيان بين الترميد والتظليم والتصديء، عدا عن تحديد سمة موضوعه، التي تشكل منطلق اختياره. وعلى الغالب من وقتها، تكون هذه السمة ملازمة لدورة التصنيع، كتناسخ السلعة، أو تراكمها، أو تكون ملازمة لمكان هذه الدورة، كقفره، أو كاستوائه على تركيب بأبعاد متداخلة.

من الممكن الملاحظة أن عدسة جمهوري، وبحسب تلك السمات، تستند إلى تصور عن دورة التصنيع، يتعلق بما كانت عليه في حين فورتها، اي في حين ارتباطها بالاستهلاك وسوقه. فالسلع، أو البضائع المعدنية، ومع تصويرها على تناسخها أو تراكمها، تحيل إلى حديث عن ثورة صناعية، لم يكن اللوح الإلكتروني علمها، كما صار لاحقا، بل الجسم الكهربائي، كالبطارية، والمولد، والمحرك. ففي حال تعيين زمن، تنتسب اليه دورة السلع والبضائع، وهي معدات وادوات وغيرها، فيكون خمسينياتي أو أربعيناتي حتى، لكن، ذلك، لا يعني تقادمها بقدر ما يعني جريانها على وتيرةٍ، لا يقدمها ولا يؤخرها. 


على أن في تصويرة جمهوري الصناعية، وعلى دوام متقطع، ملمح انهيار، وهو، فعليا، ملمح محلي، يصف قطاعه أو اقتصاده، مثلما يصف، وبعيدا عن هذه المحلية، أثر كل دورة إنتاج في فضائها، أو ببيئتها. فتبدي التصويرة هذا الفضاء، أو هذه البيئة على تخلخلها، ما يحمل على اعتقادين. الأول، أن دورة الإنتاج تجري من تلقائها، أي لم يعد لأي يد "حُكمة" فيها، كما أن جريانها هذا يقع بعد انتهائها، بحيث أن لا يد أخرى توقفها. بالتالي، دورة الإنتاج، وفي بعض مناظرها-وعبارة منظر في هذا السياق يوصلها بالطبيعة ويجعلها منها حتى لا يعود "طريق العودة" عنها سانحا - تقوم بذاتها، أما، وإذا احتوت عمالاً، فهؤلاء، وأمام جريانها على حدة منهم، يبدون محاولين الإمساك بها، لكي لا تسقطهم معها بعد أن سقطوا فيها.

يتجاور هذا الانهيار الموشك لدورة الإنتاج، أو لبيئتها، مع تنظيم وترتيب سلعها وبضائعها، الذي يظهرها في معرضها، حيث لا تعود على نفعها، إنما تكتسب قيمة استطيقية. ربما، هذا مفعول من مفاعيل التصوير الصناعي، من مفاعيله المعتادة، اي تشكيل السلعة، إكسابها وجه لا يتعلق بمطاف استعمالها، إنما، انها، وإن كانت في هذا المطاف أو فارقها، تبقى على جمالها، الذي يحولها إلى تحفة، أو إلى عمل فني. هذا المفعول، وبحسب تحقيق جمهوري له، لا ينزع عن البضاعة المصورة قيمتها الاستخدامية، ولكنه، يبدل زمنها، لتستحيل عتيقة، ليعتقها، فحتى لو كانت لا تزال نافعة، ولا تزال متصلة بسوق، فتداولها يحدث في الماضي، أو بالأحرى، يحدث راهناً في الماضي. 


بديهي القول إن تصويرة جمهوري الصناعية تنطوي على مشكلة ايكولوجية، تطرحها مباشرة، على قصد، أو من دونه. وهذا، ليس من خلال الاستدلال على علامات التصنيع في فضائه أو في بيئتها فحسب، بل عبر التفتيش عما يعاكس معناها، أو يعترض عليه. فتقع الفنانة على سماء زرقاء مفتوحة فوق معمل، أو  تركز على "فراغات" معدنية، توصل بالمجهول، أو تثبت على فسحة خضراء. وبذلك، تسعى إلى أن لا تكتفي بعرض المشكلة بمفردها، بل يكون البحث عن حلها، وهو بحث ملون، مضافا إليها، أو لصيقا بها، أو مبهما.

وتصويرة جمانة جمهوري الصناعة ليست تجميلاً وتشبيهاً واعتراضاً فحسب، بل إنها تقريب أيضاً لدورة التصنيع، لمناطقها، أكان في لبنان أو خارجه، من الذين لا علاقة لهم بها. فتبديها بوقعها لهم، ليتعرفوا على كواليس انتاج البضائع والسلع، التي لا يشتريها معظمهم باستمرار، وقد لا يبتاعها احد منهم بالمطلق أيضا، لكنها، موجودة حولهم، ولها مقام بنية بين بنيتين، رابطة الاثنين ببعضهما البعض.

*يستقبل "غاليري تانيت" في مار مخايل - بيروت، معرضاً لها بعنوان "طريق العودة". 
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024