"على خط غرينتش"لشادي لويس:«أنت مسيحي..خذ بسكوت»

المدن - ثقافة

الأحد 2019/11/17
صدرت عن دار العين للنشر والتوزيع في القاهرة، رواية "على خط غرينتش" للزميل شادي لويس... تدور أحداث الرواية حول موظف صغير في إحدى بلديات شرق لندن، يجد نفسه مسؤولاً عن جثمان لشاب سوري لا يعرفه، يرقد في أحد المشافي اللندنية.
وعبر ثلاثة أيام، يحاول بطلنا تتبع الجثمان، وسيرة صاحبه بغية إقامة جنازة للمتوفي، متجولاً في أحياء لندن، من الشرق إلى الجنوب، وهو يستعيد سلسلة من الحكايات عن الفقد والانتظار والوحدة والموت.
من الرواية
كان نايل أكبر مني بسبع سنوات كاملة. وأعزُّ الولد ولدُ الولد، كما يقولون، وهو أول الأحفاد، وخصّت الجدة، بديعة، ابن خالتي هذا بكثير من القصص وكثير من الدموع أيضاً. هو ابنُ البِكرية، هيلانة، أكثر البنات الأربع غُلباً، والتي لم تذهب المدرسة، ولم تتعلم لا القراءة ولا الكتابة، وعوّضت هذا بأن جلبت للعالم اثنا عشرَ ابناً، لا أعرف معظم أسمائهم، أكبرهم لم يذهب للمدرسة وأصغرهم حصل على شهادة الدكتوراه. ويعود سرّ هذا التفاوت، إلى إن هيلانة على جهلها الرسمي، كانت مثقفة جداً بفضل استماعها إلى الراديو، أربعا وعشرين ساعة في اليوم، حتى حين كانت تخلد للنوم، لم تكن تخفض صوت المذياع ولو درجة واحدة. ولم تكن تنصت سوى إلي البي بي سي، وأحياناً أقل، وفي الخريف خاصة، كانت يطربها الاستماع إلى مونت كارلو، وهي نفسها فشلت في أن تجد تفسيراً لتفضيلاتها الموسمية هذه. ولم تكن هيلانة مجرد مستمعة مخلصة، فلها آراء قوية بخصوص السياسة الدولية وكل شيء آخر، وتحتدُّ حين تعبّرُ عنها أمام الآخرين. فهي مثلاً، لا تزال ترى أن القبول بالصين في المجتمع الدولي كان خطأً فادحاً، وكانت تكرر في هذا الشأن جملاً رنانة جداً، وتقولها بالفصحى: «حكومة فرموزا هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الصيني».


وتجرّأَ قريبٌ لنا، في مرة على القول أمامها إنه لم يعد اسمها فرموزا، وجنّ جنونها ساعتها. وانبرت في خطبة طويلة - لا علاقة لها بالأمر- عن تحدى حكومة بكين للشرعية الدولية. وكانت تصرخ في من حولها وهي ترفع سبابتها بالوعيد، وتقول: لا تايوان ولا ماكاو، فرموزا وحدها. وكان هذا واحداً من المشاهد التي كان يستمتع أهل القرية بمشاهدتها، بقدر تلذذهم نفسه حين تروي الجدة واحدة من قصصها. وكانتا هما الاثنتان دويتو ناجحاً إلى أقصى حد، بالرغم من الاختلاف الشاسع بينهما. فالجدة كانت ريفية وتتحدث كالريفيات من صعيد مصر، أما هيلانة فكانت تتحدث مثل رجل من يوركشاير، درس في أكسفورد، ويصوّتُ بإخلاص لحزب المحافظين أباً عن جد. ولم تُخفِ الخالة ميولها النيوليبرالية، فبالنسبة لها تاتشر هي أعظم سياسيّة أنجبتها البشرية. وكان تفسيرها لمقولتها تلك هو الأغرب على الإطلاق. فالست ميرغريت كما كانت تنطق اسمها بوقار شديد، اخترعت نوعاً من الآيس كريم، يمكن تصنيعه بماكينات صغيرة سهلة النقل والتركيب، وهكذا ساعدت أصحاب الدكاكين الصغيرة في أن يعتمدوا على أنفسهم، وينافسوا في السوق (والمدهش أنني اكتشفتُ لاحقاً أن تلك المعلومة شبه صحيحة). وهيلانة كانت امرأة أفعال لا أقوال، فهي اشترت واحدة من ماكينات الآيس كريم، التي ادعت أن تاتشر اخترعتها، ونصبتها أمام البيت، وكانت تبيع منها لأولاد الجيران. وكان المشروع ناجحاً جداً، إلى أن بدأ أصحاب المحال في القرية واحداً وراء الآخر في شراء الماكينات، التي أصبح اسم شهرتها، الميرغريتة. بارَ مشروعُ هيلانة، لكن لم يمنعها هذا من أن تكون أكثر مؤيدي تاتشر في الصعيد الجواني، وربما مصر كلها، حين تعلّقَ الأمر بسياسة تمليك وحدات السكن الاجتماعي لمؤجريها، في بريطانيا، وإغلاق مناجم الفحم في شمال إنكلترا، وكذلك في حرب الفوكلاند. وذلك كله على خلاف الجدة التي كانت تمتلك وابوراً من صناعة الصين، وأخذت كذلك جانب الأرجنتين في الحرب، من باب الوفاء لأميركا اللاتينية.

فهي كانت تصرف لحماً برازيلياً مجمداً من الجمعية التعاونية مرة كل شهرين، و«العِشرة ما تهونش غير على ولاد الحرام». أما عن الإنكليز فهي لم تحبهم ولم تكرهم، وإن كانت لديها ضغينة خاصة تجاه مواشيهم، فهي كانت تقول إنهم في الحرب الكبرى كانوا يجمعون قوت الفلاحين لإطعام خيول الإنكليز، وماتت عالمٌ كثيرة من المجاعة.
وربما، بسبب تلك الاختلافات بين الجدة والخالة، فإن رواية كل واحدة منهما عن موت نايل، تركزت على جوانب بعينها منها، لأسباب إيديولوجيّة. فابنُ الخالة خرج ولم يعد، كما الجد، ولم يُعثَر على جثمانه أبداً. الجدة تقول إن الصحراء ابتلعته، أو إنه فقد عقله حين سمع صوت الانفجارات ورأى القتلى، فهامَ على وجهه وأكلته الوحوش. أما هيلانة، فتقول إنه فدى رفاق سلاحه، وإنه قفز أمامهم ليحميهم من دانةِ مدفعٍ كانت في طريقها إليهم، فتمزقت أشلاؤه ولم يجدوا شيئاً منها ليجمعوه. وهكذا ركزت الجدة على التراجيديا في موت الولد في حفر الباطن، أما الخالة، وككل أصحاب الدكاكين الصغيرة والمتوسطة، فكان ما يهمها هو حسّ الواجب، وموقف الشرعية الدولية من حرب تحرير الكويت، والأهم مبلغ التعويض التي تلقته من الجيش بعدها، والذي لم يكن قليلاً بحسابات تلك الأيام، ومُقارنةً بسعر الولد في السوق حينها.

وحقيقة الأمر، أن أياً من تلك التفاصيل لم تشغلني كثيراً، ومصير الولد الذي أخذوه من الدار للنار، في سن الثامنة عشر، لم يزعج أحداً. فالجميع لا زال مشغولاً بأخبار سعيدة عن إسقاط ديون مصر أو بعضها، وبسماع أغنية كويتية حزينة اسمها، «اللهم لا اعتراض»، وهي كانت أغنية جيدة فعلاً. لكن ما أثار اهتمامي في حكايات الجدة، عن نايل وملاحمه في الصحاري، هو تفصيلٌ صغير، كانت هي قد أسهبت في سرده مرات ومرات. فالولد كما تقول، كان معسكره بجانب معسكر الأمريكان، وهم أولاد عمومة للإنكليز كما كان تجزم الخالة، وتضحكنا. وفي معسكر الأمريكان كان هناك نساء شقراوات وجميلات وطيبات أيضاً، ويلبسن الزيّ المموه ويحملن السلاح. وفي الليل كانت الشقراوات يتسللنَ إلى خيام الجيران، ويبحثنَ عن نايل في الظلام، وحين يجدنه، كُنَّ يعطينه هدايا، بكَرَم، ويُجزلنَ عليه الأحضان والقبلات، وكان ذلك سبباً في غيرة رفاقه بالطبع وحسدهم. ولم يكن هناك سرٌّ كبيرٌ وراء هذا الانجذاب الغامض، فالشقراوات مع كل قبلة على خد الولد، كُنَّ يقلنَ له: «أنت مسيحي... خذ بسكوت» ثم يقمنَ بضمّه بمودة أخوية، ويُضفنَ إلى ذلك: «أنت مسيحي... خذ لبن»، «أنت مسيحي... خذ شكولاتة».

شادي لويس

 شادي لويس، كاتب واختصاصي نفسي من مصر مقيم في لندن، حاصل على الماجستير في علم النفس في جامعة شرق لندن عن رسالة في البنية الخطابيّة للحشود في الثورة المصريّة، ومرشّح لدرجة الدكتوراه في العلوم السياسيّة، مهتم بالكتابة عن الخطاب الاجتماعي وعلاقته بالسياسة اليوميّة، يكتب حالياً لـ"المدن"، صدرت له من قبل: رواية "طرق الرب" عن دار الكتب خانة.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024