طوني شكر لـ"المدن": فليقاوم الفن المعاصر تنميطه

روجيه عوطة

الثلاثاء 2017/02/07
يقدم الفنان طوني شكر في "مركز بيروت للفن" معرضه "أن تصير اثنين"، جامعاً في فضائه عدداً من أعماله المختلفة، التي أنتجها على مدى عقدين من الزمن. فهذا المتنقل بين العمارة والكتابة، هو، والى جانب ثلة من رفاقه، من أوائل ممارسي الفن المعاصر في بيروت بعد الحرب، حيث طرح اشكاليات متنوعة، من اعادة الإعمار والفضاء العام في تسعينات القرن المنصرم الى  المنظور الإدراكي الذي صاغته الرأسمالية على اساس الكم وفيضه، ومعهما، الواقعات الثورية في العالم الناطق باللغة العربية، بالاضافة الى اهتمامه المبكر بالمسرح والأسطورة الدينية.


هنا، مقابلة لـ"المدن" مع طوني شكر.

-طوال الوقت، لازمك إقتناع بأنك لن تنظم معرضاً منفرداً، لكنك هذه المرة أقدمت على ذلك، لماذا؟

لقد تأثرت بالكثير من الفنانين، الذين لا يجدون أن أعمالهم هي السبيل إلى إبرازهم أو إلى إظهار شخوصهم، لذلك، كانوا، وفي أغلب الأحيان، يشتركون مع غيرهم في الشغل وعرضه. ولما تتأثر بهؤلاء الفنانين، يسكنك نزوع دائم إلى تغليب العمل الجماعي على العمل الفرداني، كما أننا، في بيروت، بعد الحرب، شعرنا، أنا وغيري من الفنانين، بالحاجة إلى التعاون مع بعضنا البعض على أساس شؤوننا وهمومنا المشتركة. بالطبع، لاحقاً، تغير كل شيء، فقد انحسر العمل الجماعي لصالح الفرداني، والتآزر لصالح التنابذ، بالإضافة إلى أن الفنانين، الذين كنت أتحاور وأعمل معهم، صاروا، في أكثريتهم، خارج البلاد، وبذلك، قررت الإنخراط في تجربة المعرض المنفرد، الذي قدمت فيه أعمالاً قديمة وجديدة. فمن خلال تقديمها بالتجاور، من الممكن لمتلقيها أن يتلمس تشابكها وتبدلها.

- متى بدأ هذا الإنحسار، وما أسبابه؟

قبل عشر سنوات تقريباً، يوم بدأت الغاليريهات تنتشر بكثرة في بيروت، عدا عن تغير آليات العمل، فالجمّاعون، صارت لهم وطأة على الإنتاج الفني، بحيث صار يتوجه إليهم أو ضدهم، أما قيامه بالبعيد منهم فغدا صعباً وعسيراً.

- واليوم، كيف تنظر إلى موقع الفن المعاصر هنا؟

لا يمكن الحديث عن الفن المعاصر في البلاد من دون عطفه على وضعه في العالم. إنه، ببساطة، يعيش في أزمة. حالياً، حينما تلتقي بفنان ما، يسألك:"أين تتمركز؟" وليس "أين تسكن؟"، كما لو أنك مركبة فضائية تغط في مكانٍ لتطير إلى آخر، فعليك مثلاً أن تنتقل من إقامة فنية إلى أخرى، وبالتالي، لا تكون على اتصال بما يحدث في مدينتك أو بلدك، كما عليك أن تختار أفكارك، وخطابك، على أساس الرائج في الأوساط الفنية، وليس بالإنطلاق من الحاجة أو المشقة. على هذا النحو، تولد دينامية بين الفنانين تكون، من ناحية، مغلقة على مدينتهم، ومن ناحية أخرى، قائمة بالتزاحم، والهجس بالشهرة في ذاتها.

- لكن، هل يعني هذا أن الرائج من الفن المعاصر وفيه، ما عاد جهة مقاومة، بل موضوع مقاومة؟

بالطبع، خذ مثلاً، وعلى سبيل المزاح، هيئة الفنانين في المعارض، أو المناسبات. تشعر أنهم يتماثلون في إرتداء الثياب نفسها، ولما تظهر بينهم في مرتدياً ثيابك "المألوفة"، ينظرون إليك كأنك لا تمتّ إليهم بأي صلة، وكأنك "قديم". كما أنهم يروجون لمصطلحات ومفاهيم بلا أدنى تمكن او تسييق، وما عليك سوى التفوه بها، وإلا ستكون "غريباً" عنهم، فهناك نمط، لا بد أن تلتزم به. وهذا ما يحتاج إلى مقاومة.

- يحضر النص في أعمالك، في حين أنه، وفي الكثير من الأحيان، يبدو منفياً من ممارسة الفن المعاصر بأطرزته الراهنة، هل يُعد هذا الحضور كلاسيكياً؟ وما هي صلة فنك بالكتابة؟

لا أنظر إلى اللغة على أساس أنها وسيلة تواصل أو تفسير، بل كمادة، تتشكل في نصوصٍ، تستوي علاقتي بها في مقالب عديدة، من كتابتها الى اقتباسها، بحيث أختار منها، وأضيفها إلى العناصر الأخرى من العمل الفني لكي تبينه أو تبرز علاقة أخرى به. فالنص هو جزء من العمل، وليس مجرد شارح له، أو دليل لمشاهدته، إذ يتصل بالمرئي والهندسي، ويبني معهما نسقاً منسجماً، لا يكون هامشياً فيه. ثم ان النص مفتوح على الزمن من ناحية نوعه، لا كمِّه، وهذا على ما أعتقد مخالف للحداثة، التي أرادت أن تهندس العالم بحسب منظورها الكمّي، وأي شيء لا يستطيع استدخاله، يقصيه. طبعاً، عماد هذا المنظور، الذي تُعلمنا الرأسمالية أن نشاهد من خلاله، هو الصورة، التي أضحى لها نظامها الكامل والوافر والمسيطر، لكن كل هذا لا يلغي حدوده، التي لا يستطيع تجاوزها.

- وما هي هذه الحدود؟

هذه الحدود تُصنع، وأول صناعتها هو وضع كل ما أنتجته وتنتجه الحداثة في سياقاته، الآن، نحن نتكئ على منظورها، وهذا المنظور، أياً كان رسوخه، ليس دائماً.


 - لكن، بالإستناد إلى هذا المنظور، الذي ينتجنا كمتفرجين، هل ما زالت الرؤية متاحة؟

في فيلم "روما" لفيلليني، الذي يدور، في وقت من أوقاته، حول بناء المترو تحت المدينة، هناك مشهد يقول فيه أحد العمال، للمهندس المسؤول عن الورشة، أنه وجد فجوة في الرجاء، فيعمدون إلى توسيعها، ويدخلون عبرها، وعندها، يقعون على مدينة أثرية حية، وما أن يطلقوا أنفاسهم فيها حتى تبدأ بالتفتت. لنقل أن وقوعهم على تلك المدينة هو لحظة الرؤية، التي سرعان ما تتشتت، وتزول، وذلك، بعد أن يختلط الماضي بالحاضر والمستقبل، تماماً كما حدث في الثورات العربية، حيث برزت لحظات عظيمة، أشارت إلى ما سيحصل، قبل أن تختفي.

تهتم في عملك بالأيقونات، ولك باعٌ في التراث المسيحي، كيف تتحدث عنهما؟

إهتمامي بالأيقونة وتراثها له علاقة بمسار بحثي بعينه، وهو العودة إلى الوراء، الذي غالباً ما يكون مدمراً في الحاضر، من أجل البناء من ركامه، أو النظر عبر هذا الركام إلى الراهن. حالياً، لا مكانة للأيقونات، التي كانت ترتبط بصُلب الحياة وتحدد منظور إبصارها، بالتالي، إستنادي إليها هو بحث في منظورها، مثلما أنه بحث في العلاقة التي تصوغها بين المكتوب والمرئي، لا سيما أنها بمثابة نص معد للقراءة، أي أن اليد تكتب أكثر مما ترسم، ولإنجاز ذلط ثمة شروط وتمارين بعينها. وفي المجال ذاته، لا يمكن غض الطرف عن غنى التراث، واختزاله في الرائج من الدعاية الدينية، على ما يفعل المأخوذون بالإيديولوجيا الإلحادوية. ويُضاف إلى ذلك، أن هذا التراث هو في صدد الموت، أو بالأحرى الإنقراض، أكان بسبب تحجير الكنيسة له، أو بسبب محو أثره.

- متى يتدخل الفنان في الراهن، ومتى يكون على مسافة منه؟

يطلع الفن من الراهن، بمعنى أنه يبزغ منه، وبالفعل نفسه، يبارحه، والمهم في هذا ألا يكون مجرد رد فعل عليه، فعندها يأخذ منحى قصصياً أو إعلامياً خالصاً، أو يخسر استمراريته، مثلما أن المهم ألا يخاف من الصمت في لحظات معينة، إذ يمكن للصمت أن يكون موضع رؤية، وهذا، في كل حال، ما أعلنته يافطات كفرنبل البيضاء، التي أعلنت نهاية الكلام.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024