رثاء لبنان باعتباره أدب المرحلة

روجيه عوطة

الخميس 2019/10/17
بما أن لكل مرحلة تاريخية أدبها، فربما من المجدي الآن الحديث عن الأدب المواقف لما يمر به لبنان. فالحرائق، ومن بعيد، أشارت إلى أن آخر مقلب من مقالب البلاد، وهي جغرافيته الخضراء الضئيلة، قد مضت إلى حتفها، معلنةً انصرافها من ثقافته المنصرمة، من سردها ومشهدها، لترجع إلى الطبيعة. إنتكاسة، ربما، لكن، على الأقل، حالها هذه، التي لها الحق فيها، تكفل، وبالمطر، تخليصها من لهيب اندثارها الكلي.

ذلك، أن القيمين على استقرارها في الثقافة، والقيمون على مؤسسة هذه الثقافة التي لم تعد موجودة، ولا كبقايا حتى، راحوا يفتشون كالعادة، أو للحفاظ على هذه العادة، عن "عدو"، وهم وجدوه، طبعاً، في "السوري"، في كل سوري. وهكذا، ولأن لا قدرة لهم على إطفاء نيرانها، بدأوا يمدوا ما يسمى "سياستهم"، أي إنعدام كل سياسة، عليها، ولأن لا قدرة لهم على إطفاء اضطرامها، سعوا إلى تجزئتها، وبطريقة مضحكة، بالهويات. إنها الكوميديا، بالتأكيد. لكن، هذه المرة، هي الكوميديا التي تقتل، فالدفاع المدني لم يصل بسرعة إلى بتاتر، وسليم أبو مجاهد لن ينتظره، لذا، خرج من مسكنه، حاول أن يخمد الإتقاد، "قلبي عم يوجعني"، ومات.
سلام عليه.

من هنا، الأدب الوحيد، الذي تنتجه مرحلة الإحتراق، وهي، إضافة إلى الانزلاق والانحطاط، من مراحل السقوط، هو ادب الرثاء: رثاء البلاد، رثاؤها على أكمل وجه. وهذا، بدايةً، يقتضي نعي سياستها، ثقافتها، إقتصادها، اجتماعها إلخ. بحيث أنه يشير إلى كون كل هذه المؤسسات قد صارت، ومنذ زمن، مجرد جثث. أما السلطات فيها، فعلى شاكلتها، وقد تكون حيلتها الوحيدة هي الادعاء بكونها لا تزال حية عبر التنازع وافتعال المنع وبث العنصرية بالفضل عن الانكار. كما أن النعي إياه يتيح مغادرة موقع رد الفعل على حيلتها، وهو موقع التناقض معها الذي ينقل إليها بعض الحياة، أو بالأحرى بعض مظاهره فقط. فقد غدت كلها تعيش، يعني تبقى بعد موتها، على أساس أن ثمة "مناقض"، "منافي" لها، وهو سرعان ما يصير متعلقاً بها، فيتأرجح بين النيكروفيليا والنيكروفوبيا.
الجثث للدفن، بديهي، كما أنها، بالتوازي مع ذلك، للنعي.

لكن، بين النعي والدفن، ثمة رثاء، ومشكلته لا تدور حول إن كان البكاء في أثنائه لازماً أم لا، أو حول إن كان توديع الفقيد يجب أن يترافق مع الحزن عليه أم لا. ليست هذه المشكلة، لا سيما أن البكاء أو الحزن في حينه سيحضران لأنه أيضاً نعي لنا، لذواتنا، التي أنتجتها لنا تلك الجثث، والتي ستوارى الثرى معها. ليست هذه المشكلة، إنما هي تدور حول انعدام محاسن الفقيد: ما هي محاسن الجثث، التي لا شك أن كثرة منا لم يتعرف عليها سوى بعد موتها، بعد عصيانها على الـ"إنقبار"؟ قد تكون محاسنها هو أنها لا تحمل سوى على رثائها.

كاريكاتوري قليلاً، وغير منطقي كثيراً، أن تكون الصفة الحسنة الوحيدة لميت أنه يفيد بضرورة جنازته، التي، ومن كثرة رفضه لها، نالت منه. وهكذا، بدلاً من أن ينزل إلى حفرة، صار يسقط فيها. فنظام الجثث، وفي انهياره، يتساقط أشلاء، بحيث أن الجنازة، التي كان قد حظرها، بعد "الطائف"، وككل جنازة ممنوعة، تحولت، وفي داخله، إلى انفجار، تحولت إلى إنفجار داخلي، أي، وبالعربية، إلى إنبجار.

ففي العام 2015، عاد ذلك النظام مقنّعاً وضاغطاً فراغه بعد بروزه، بالعودة إلى أول التسعينات، وهذه ليست انتكاسة، كانتكاسة البقعة الجغرافية الخضراء إلى الطبيعة، لأنه لم يكن يحتمي من حريق ما، بل كان يحاول طمر واقعه. ولهذا، رمى المشيرون إلى هذا الواقع خلال الحراك بالمياه، فأطفأهم، وأخمدهم، قبل أن يتسلم سدته جنرال وصهر وعائلته. في ذلك العام، استأنف رفض جنازته، ومرادفها هو ضغط الفراغ، الذي، وفي إثر تفاقمه، أدى إلى شروعه في انبجاره.

فها هو ينفجر من الداخل، ينبجر، ويتساقط، والمظاهرات حين تسير، مرةً، لمشاهدة تساقطه، ومرةً، للم أشلاءه وجمعها، ثم أخذه إلى مقبرة. لكن، أين المقبرة؟ ربما، هذا، ما جعله يعيش بعد موته، ويطيل هذا العيش: لا مقبرة حتى الآن. ففي حال كان الرثاء هو الأدب، فبناء مقبرة هو البرنامج!
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024