سَرد شريف مجدلاني

روجيه عوطة

الثلاثاء 2020/10/06
صحيح أن الأدب الفرانكفوني اللبناني يبدو، وفي أحيان كثيرة، أنه يدور حول نفسه. إذ إن شعره، وما أن ينصرف من قاموسه المصنوع في السبعينات، حتى يعود إليه، كما أن سرده، وما أن يقرر الانصراف من مهمة التعريف ببلده الأم، لبنان، حتى يرجع اليه. صحيح أن أدبنا هذه حاله، لكن هذا لا يلغي أنه، وفي أحيان تعثره نفسها، يُبرز علامات فارقة تشذ عنه، وفي الوقت ذاته، تواصله لتأخذه الى مجرى أو سياق يصعب وصفه بالجديد، الا أنه، على الأقل، مختلف. من هذه العلامات، هناك شريف مجدلاني، الذي صدر له منذ أيام عن "آكت سوود"، كتاب بعنوان "بيروت 2020: مذكرات الانهيار"، والذي يسجل فيها يوميات من بداية تموز حتى نهايات آب الحالي، متحدثاً في كل "يومية" عن مجريات الانهيار ذاك. لماذا مجدلاني هو من تلك العلامات؟

من الممكن الإشارة، بدايةً، الى كون السرد المجدلاني ليس كالسرد الشائع في ذاك الأدب، إذ لا يقوم على هاجس التعريف بلبنان على نحوه. بالتأكيد، ينطلق السرد المجدلاني من هذا البلد، لكي يروي وقائع تحصل فيه، لكنه، طوال ذلك، لا يبدو مسكوناً بإرادة أن يعرّف، أي ليس بإرادة القول أن لبنان هو كذا. وهذه الـ"كذا" بالتحديد تبدو إشكالية في الأدب الفرانكوفوني، وحين يتوجه بها الى قراء لغته الفرنسية، يؤلفها بالمماثلة، بمعنى أنها تكون عبارة تماثُل بين لبنان والعالم، مركزه "الحضاري". ومن المعلوم أن هذه الـ"كذا" غالباً ما تسير على منوال سردي محدد، يمكن اختصاره بالتالي: لبنان كان ككل البلدان في ذلك المركز، لكن الحرب دمرته، أو لبنان الراهن منها. في الحالة الأولى، هناك رواية "الحرب" التي دمرت "سويسرا الشرق". وفي الثانية، هناك "لبنان الليل والسهر إلخ"، لبنان السياحة. وفي المقلبين، السرد يشتغل بالتشديد الـ"كذا"، ليكون دليلاً عليها.

إلا أن السرد المجدلاني لا يختزل نفسه في أن يكون هذا الدليل، بأن يشدد على "كذا" خاصة به، إذا جاز التعبير، بل يتخطى مقلبيه، الى تخييله بما هو صناعة لحوادث وحكايات تتفاعل وتترابط وتترك آثارها في شخصيات إلخ. بطريقة أخرى، السرد المجدلاني همّه، وهذا من بديهيات الهموم، أن يصنع رواية لا تنشغل بأن تكون أكثر من ذلك، ولا أن تكون الدليل أو الكتالوغ... فقبل أن يكون لبنان "كذا"، عليه أن يقول شيئاً ما لا يكون على سبيل تماثله مع غيره. لكن، أي رواية؟

نافل التذكير أن التطرق الى روايات مجدلاني يفضي دائماً الى القول أنها "الرواية التاريخية"، وإفضاؤه هنا يتعلق فعلياً بإدراجها في السياق الشائع من الأدب الفرانكفوني. بالطبع، السرد المجدلاني ينطوي على ضروب من التأريخ، لكن هذا لا يجعله "تاريخياً"، بمعنى أنه لا يجعله وثيقة عن مرحلة زمنية معينة، يعمد الى عرضها، الى تظهير ملامحها. ففي هذا السرد، هناك تاريخ، لكن هناك تفلتاً منه أيضاً، وذلك، بالذهاب الى حوادث، الى حكايات، لا تلتزم به، لا تعكسه، لا تجري لتخدمه، لتخدم سويته. في الواقع، رمي صفة "التاريخية" على كل رواية الفرانكفونية، اعتقالها فيها، يبرز كأنه حنين الى وظيفة معينة للأدب بما هو دائرة رسمية، جهاز التخييل الدولتي، آلة لانتاج أسطورة وطنية إلخ. لكن هذه الوظيفة انتهت الى غير رجعة. والسرد المجدلاني، قد تصح قراءته -وهذه قراءة من القراءات- بمثابة تدبير للأدب بعد تركه لوظيفته تلك، بعد تركه لدور لطالما كان عبئاً عليه، ولطالما سُحقت قدرته تحته. إن سرد لا حنين فيه الى وظيفة الأدب الذي كان يسمى "رفيعاً"، لا يرممها، ولا يحاول إعادة إعمارها، انما يكتفي بسَيره بعيداً منها، من دون صناعة لغيرها حتى. في الأصل، يبدو كاريكاتورياً أن يكون الأدب الفرانكفوني أو غيره طامحاً الى وظيفة ما في النظام اللبناني!

على أن السرد المجدلاني، وإن لم يقترن بهذه الوظيفة أو تلك، فهو يبدو أنه يستند، في مقابلها، الى موضع، بمعنى أنه سرد من موضع، وما هو هذا الموضع؟ موضع الشخص الذي يمضي عيشه في بلده راوياً منه بطريقة يصح القول، وكل قيمتها هنا، أنها عادية، بمعنى أنها لا تحمّل العيش وِزر السرد، ولا السرد وِزر العيش. فحتى لو كان السرد، وكما في "بيروت 2020"، سرداً للعيش بعدما صار انهياراً، يبقى على أناته، وحتى لو صار هذا العيش المنهار مسروداً، فهذا لا ينزع منه وقعه. علاقة عادية بين عيش منهار وسرد سلس، لا العيش يتأثر بالسرد، ولا السرد يخنقه العيش، علاقة يكفلها تدبر موضع للأدب بعد تلاشي وظيفته.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024