نجيب مبارك... كوفيد وبورخيس

المدن - ثقافة

الأحد 2021/01/10
بعد عام من الجائحة، هل يمكن جدّيًّا التأريخ لنهاية "الكابوس"؟
إذا نجونا يومًا سنقول لأحفادنا بفخر: "لقد كنّا شهودًا على عام الكابوس"، أو "عام كورونا"، أو "عام الفيروس"، أو "عام الكوفيد"، لا فرق، كما كان يردّد آباؤنا وأجدادنا بفخرٍ أنّهم نجوا من "عام الجوع"، أو "عام الطاعون"، أو "عام الجفاف"، أو "عام الكساد العظيم".. إلخ.
 
كم ظلَمنا "الخيال العلمي" على مدى عقود طويلة!  كنّا نقرأ رواياتٍ ونشاهد أفلامًا ونهمس لأنفسنا قبل النّوم: "يا لهُ من خيالٍ جامح! لحسن الحظ، هذه "الأشياء" لا يمكن أن تحدث في الواقع".  اليوم، لم يثبت فقط أنّها يمكن أن تحدُث في الواقع، بل إنّها يمكن أن تحدُث بأبسط وأتفه وسيلة مُمكنة، بحيث لا أحد كان يتخيُّلها قبل شهور: أنفلُونزا بسيطة ومُعديّة، لكنّها هذه المرّة أخطر من سابقاتها في السّلالة، لأنّها تنتشر بين الناس من دون ضجيجِ مركباتِ غزوٍ فضائية عملاقة أو حوادثَ طبيعيّة خارقة للعادة.

في هذا السّياق، يحضرني عنوانُ كتابٍ قصصيّ جميل لبورخيس، هو: "التاريخ الكونيّ للعار". يحتوي هذا الكتاب على قصّة "الصبَّاغ المقنَّع حكيم مرو"، وهي حكاية عن نبيّ مزيّف من خراسان، يخفي وجهه وراء قناع أو حجاب، زاعمًا أنّ عليه إخفاءه كي يحمي الآخرين من البريق الصّاعق لنظراته الخارقة. 

نجح حكيم في ضمّ كثير من الأتباع، شكّل جيشًا ولفّق دينًا باطنيًا خالطًا الإسلام بعقائد غنّوصية. بعد هزيمته والقبض عليه من طرف ضابطين، سيتمّ الكشف أنّ قناعه لا يخفي إلّا وجه رجل عاديّ: وجهٌ أبيض وبشع للغاية كأنّه مصاب بالجذام. كان بلا جفنَين، وبؤبؤ العَين اليمنى يتدلّى على الخدّ، والأنف أفطس مثل خطم الأسد. وعلى الرّغم من أنّ المقنَّع صرخَ مهدِّدًا إياهما بعذابٍ أليم، فإنّ الضّابطين مزَّقا جسده بالسيوف.

يشبهُ هذا الفيروس الغريبُ "حكيم مرو" الّذي اخترعه بورخيس. إنّه عدوٌّ مقنَّع مجهول الهويّة وذكيّ للغاية، يُخفي وراء قناعه الزائف وجهًا أقلّ سحرًا وغموضًا ممّا يبدو. وإذا استطاع العلماء يومًا أن ينزعوا عنه هذا القناع، ونتمنّى طبعًا أن ينجحوا، فمن المحتمل أن لا نجد سوى ملامح مرضٍ عاديّ جدًّا يُصيبنا كلّ شتاء ونسمّيه ببساطة: "إنفلونزا موسميّة". قد يبدو هذا السيناريو متفائلًا جدًّا، لكنّه يبقى أقلّ "كابوسية" من التّأريخ لقيامة قبل الأوان، إذا لم ينتصر الإنسان على عدوّه "المقنّع" في أسرع وقت.

(*) مدونة نشرها الكاتب والمترجم نجيب مبارك في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024