نواف الموسوي.. الفرصة الضائعة

رشا الأطرش

الجمعة 2019/07/19
لم تتحول غدير نواف الموسوي، قضية رأي عام، رغم امتلاكها كل المقومات لذلك، وأكثر. إذ كَونها ابنة شخصية عامة، إضافة إلى تفاصيل قضيتها المؤلمة، فهذا ما كان يفترض أن يساهم في تسليط مزيد من الضوء عليها، بحيث تصبح نموذجاً يرفع معه، إلى دوائر القرار والعمل التغييري، ملفات النساء اللبنانيات المظلومات بقوانين الأحوال الشخصية والمحاكم الروحية/الشرعية ممن لا يمتلكن شُرفة عامة يطللن منها. خصوصاً نساء الطائفة الشيعية اللواتي يعانينَ جَور المحاكم الجعفرية، المعروفة بأنها الأسوأ على الإطلاق بين مثيلاتها في لبنان، من حيث ضربها للمرأة في إنسانيتها وأنوثتها وأمومتها ومواطنيتها. ولئن كانت هذه حقيقة مفجعة، فهي ليست خارج التوقعات، بل لعلها النتيجة الأكثر إخلاصاً للواقع اللبناني.


انشغل الرأي العام اللبناني بالإشكال الذي وقع في المخفر، وبأداء "السيد" نواف الموسوي، وبالفيديو الذي صوّرته شقيقة غدير. ورغم تجاهل إعلام "حزب الله" للحدث والقضية برمتها، فقد حملها بقية الإعلام اللبناني بأطيافه السياسية والطائفية كافة (ولو للاستفادة أولاً من عنصر الإثارة). والأهم، أن السوشال ميديا زخرت بالتضامن مع الموسوي الأب وابنته، لا سيما المغردون من بيئة "حزب الله" والجماعة الشيعية عموماً، إضافة إلى المجتمع المدني ومختلف فئات الاجتماع اللبناني. حتى حلفاء "حزب الله" تحرّجوا من عدم إبداء التضامن والتعاطف، وإن ذيّلوا تضامنهم ذاك بأن شيئاً لا يمكنه النَّيل من "المقاومة".

ظنّ اللبنانيون، معذورين، بأن لتضامنهم وزناً، وذهبوا به في تفريعات وتنويعات، بدت صحّية ودافعة لتوسيع النقاش، لكن هيهات منّا التأثير. بعضهم شدد على تضامنه مع غدير وحدها، دون أبيها المنتمي إلى حزب لطالما وقف حجر عثرة في وجه اعتماد قوانين أكثر إنصافاً للنساء، بل إنه هو نفسه صوّت ضد تعديلات قانونية كانت لتُنصف ابنته حين آن الأوان. والبعض الآخر ذهب، في التضامن مع غدير وحدها، إلى شجب الذكورية (الأب يحمل قضية ابنته) التي تعود وتهيمن على المطلب، تماماً مثلما يتّسم بها الظُّلم، في حين أن هذه الأبوية نفسها حازت، في مقلب آخر، تضامناً عاطفياً من آباء وأمهات. وتمسك البعض بحنبلية اللاعنف واحترام القانون و"الدولة" المتمثلة في المخفر... إلى آخِر مروحة المواقف التي لم تستطع الفصل بين الموسوي وابنته، وبينهما وبين "حزب الله" الذي يفرض هيمنته على البلد وقراراتها الداخلية والخارجية، وصولاً إلى التذكير بأن الرئيس المُغتال بشير الجميل، الذي شتمه الموسوي خلال إحدى جلسات البرلمان، كان قد فَقَد هو أيضاً ابنته مايا اغتيالاً.

غير أن كل هذه الحيوية الجدلية، نُثرت هباء في خلال 24 ساعة، بعدما احتجب الموسوي. ولم يصدر عن "حزب الله"، أو البرلمان أو أي مسؤول زمني أو روحي، أي موقف. وما عاد لدى وسائل الإعلام جديد تستكمل به متابعاتها... إلى أن عاد الموسوي إلى واجهة الخبر باستقالته من المجلس النيابي. وهذه أيضاً بدت مفاجأة، لكنها في الحقيقة ليست خارج السياق.

تكاثرت التحليلات و"المعلومات" بشأن قصة هذه الاستقالة. لمّح بعض الإعلام أن "حزب الله" أجبر الموسوي عليها، فيما قال البعض الآخر أن الموسوي قرر الاستقالة احتجاجاً على عدم وقوف الحزب إلى جانبه في هذه القضية، لا سيما أن الطرف الثاني فيها، أي طليق ابنته ووالده، يشكل مركز قوة داخل الحزب نفسه. لكن النتيجة تبقى واحدة: استقال الموسوي من الموقع الوحيد الذي كان يمكنه عبره أن يفعل شيئاً في هذه القضية، على مستوى التشريع، والمناصرة العلنية من داخل المؤسسة المعنية بقضايا النساء من النوع هذا. وبقي الموسوي في "حزب الله" الذي لا أحد يسعه أن يستقيل منه، من دون أن يجد نفسه في العراء الطائفي والاجتماعي والسياسي، بل والأمني!

ثمة من قال إن الموسوي هنا يستقيل ممن انتخبوه. وأنه، حين يقول إنه "يحمي الحزب من تبعات ما يفعله لشؤون عائلية وشخصية"، وأنه يريد أن يكمل مسيرة الدفاع عن بناته من دون أن تُحسب أفعاله على "حزب الله"، فعليه عندها أن يستقيل من الحزب، لا من النيابة التي "فضّل عليها أبوّته". لكن كلام الموسوي لم يُجافِ الدقة. فحين انتخبه أبناء مدينة صور، لم ينتخبوا نواف الموسوي لبرنامجه أو تمايزه عن منافسيه في تمثيلهم، بل لأنهم صوّتوا للائحة "حزب الله"، كما هي، وكما التكليف الشرعي. وحين أسقط الموسوي حصانته كنائب، فلِعلمه بأن حزبه لا حصانة تردع انتقامه. وحين استقال، استقال من "كتلة الوفاء للمقاومة"، وليس من مجلس نواب الأمة. استقال من وظيفة حزبية عامة، وظل حزبياً في الخاص. لقد أصبح نواف، لهنيهات، فرداً. بألمه، بقضية غدير، بعدم استسلامه للمعتدين على حق ابنته. لكن فرديته هذه، سواء استقال من النيابة أم لا، مهدورة، لن تكون ذات فاعلية في الحيز العام، حيث تتزايد أعداد "الغديرات" وتعلو استغاثاتهم، ولا مجيب. فرديّته هذه وأدها، لحظة ولادتها، انتماؤه للحزب الذي تكون في حظيرته وتحت سقفه، أو لا تكون.

كانت قضية غدير نواف الموسوي، فرصة لاختراق "حزب الله" بالقضية الأمّ، لاستقطاب مدافع عنها من داخل تلك القلعة الإيديولوجية الطائفية المسلّحة. كانت أبوّة نواف لغدير، فرصة يُستثمر فيها لأجل الصالح الأعمّ، بدلاً من التبرؤ منها. فرصة الحظوة بشخصية عامة، من لدن "حزب الله" بالتحديد، لتكون وجه المطلب. كان النقاش فرصة ليقول مدنيون لبنانيون لطائفيين لبنانيين: نحن لسنا مثلكم، قد نعارض الحزب وابنه ونائبه نواف الموسوي، لكننا نعرف كيف نجزّئ مواقفنا وفقاً لمبادئنا، وهذه هي الأخلاق، وهذا السلوك الذي سنكون روّاده، لترويجه وتعميمه.

كانت هناك فرصة لفتح نافذة تواصل مع "المجتمع" الشيعي، بظلامة مشتركة، وطنية ومواطنية، وبالتالي تحقيق كسر، ولو جزئي، في احتكار "حزب الله" للطائفة، قسراً أو طواعية. وبما أن الصراع في قضية غدير هو ضمن الطائفة الواحدة، ولا خطر "فتنة" فيه، كانت هناك فرصة بتحقيق إنجاز ما في معضلة المحاكم الجعفرية، طالما أن القانون المدني للأحوال الشخصية يبدو بعيد المنال، والعمل ينصبّ منذ فترة على حيازة مكتسبات تراكمية من داخل كل طائفة، كما حصل لدى السنّة والدروز.

لكن كل هذه الفرص محكومة سلفاً بالضياع. فالمجتمع المدني اللبناني لم يتحلّ بالاستراتيجية البراغماتية اللازمة، أو لعل الطريق مقطوعة بينه وبين دارة الموسوي، ولم يتمكن من إبقاء الحدث حياً. ومن جهة ثانية، أثبتت التجربة أن الشيعة لن يقرصوا "حزب الله"، من تحت عباءته، بالقوة الكافية لإيلامه، مهما علت وتيرة تضامنهم مع الموسوي وابنته، ومهما ناضل (دون كيشوت) الموسوي نفسه. فمن قبل هذه وذاك، استعرت شكواهم من إرسال أطفالهم للموت في سوريا، ولم تهتز شعرة تحت عمامة.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024