عندما تصبح شيراز هي أصفهان

أسعد قطّان

الأحد 2020/01/12
حين تنظر إلى شيراز، الفتاة الأصفهانيّة التي تقطر عيناها لوزاً، يتّضح لك كم أنّ إيران المتّكئة على زرقة قبابها ومجاز شعرائها أرحب بما لا يقاس من جمهوريّة الملالي التي تقرأ عنها في الصحف. وفي صحبة شيراز، تفهم أنّ الاختزالات الممزوجة بالأسطورة عن بلد الثورة الإسلاميّة «الفريدة» لا تختزل شيئاً. وحين تستعين بذاكرتك على الانسلاخ الذي تصنعه المسافة، تحنو على ذاكرة المدن في خاطرك لأنّها صيغت بوجوه الناس الذين يسكنون فيها، وتدرك كيف تحوّل الذاكرةُ الوجوه إلى مرايا.
في أصفهان يقولون إنّ أصفهان هي نصف الدنيا: يروون حكايات عن فانتازيا الخطّ العربيّ. ثمّ يستعيدون نزوات ملك صفويّ اقتلع المعلّمين الأرمن من وطنهم واقتادهم إلى أرض جديدة كي يعمّروا أرمينيا فارسيّةً مفتوحةً على جماليّات العمارة واحتمالات الحجر واللون. وحين كنّا نسأل شيراز كيف يمكن لفتاة مثلها أن تعيش في أصفهان على الرغم من أنّ اسمها شيراز، نراها تعبث بعدسة آلتها الفوتوغرافيّة وتغرق في برهة صمت. ثمّ تبتسم بمكر وتجيب: «أصفهان هي نصف الدنيا وشيراز هي نصفها الآخر».

لم أرها منذ زيارتي اليتيمة لإيران في خريف العام 2017. ما أخبارها يا ترى، وماذا حلّ بها؟ كانت تحجب شعرها العصيّ على التأويل بمنديل أزرق فتزداد عيناها إتساعاً. وحين يبتلع الغسقُ المدينة التي تلتفّ على ظلال حدائقها، تبدو عينا شيراز كأنّهما قطبا عالم إهليلجيّ الشكل انبثق لتوّه من صراع العتمة مع النور في أسطورة ميثرا.

تقتادني شيراز إلى أصفهانها. تصطحبني إلى البازار الممتدّ بين الميدان والمسجد الكبير. هناك نملأ ثقوب الوقت بالفسيفساء وعَظم الجِمال الملوّن والعاج المنحوت بالغنج. تدخلني إلى حوانيت ينبض فيها السجّاد الفارسيّ بالنور. يُخرج البائع الذكيّ قطعةً تلو قطعة ويفردها أمام ناظرينا بتؤدة كأنّه يتيح للوقت أن يتباطأ كي يسترسل الجمال في جماله. يُقسم بكلّ غالٍ ونفيس أنّ قطعه كلّها صُنعت في أصفهان. لا قمّ هنا ولا تبريز ولا مشهد. وحدها أصفهان هي المشهد وهي القصد وهي الحكاية المنسوجة بخيطان الصوف والحرير. أحدس بأنّه يغالي في أسعاره رغم ندرة السيّاح. أنتظر أن تتدخّل شيراز. لكنّها لا تبارح مدينة صمتها. فأضطرّ أن أنازل البائع الماكر وحدي بكلّ ما أوتيت من حذاقة التنقّل بين العربيّة والإنكليزيّة، ثمّ أخسر.

لم أرها منذ ذلك الخريف. هل تحقّق حلمها بالذهاب إلى بريطانيا لمتابعة تحصيلها العلميّ، أم إنّها كانت ما تزال تقف عند باب مسجد الإمام لطف الله حين نزل الناس إلى الشوارع يهتفون لشيء غامض اسمه الحرّيّة؟ هل ما زالت تلاعب آلتها الفوتوغرافيّة بنزق، أم إنّ العدسة الثاقبة النظر تشظّت في متاهة العنف؟ وكيف تتلقّى شيراز اليوم كلّ هذا الجنون الذي يرقص على إيقاع الموت بين عنجهيّة دونالد ترامب وتعنّت الملالي؟

غادرتُ أصفهان والعطر الأنثويّ يحاصرني. كانت ساحة الميدان تتلألأ مثل وليمة، ووهج الشمس يحوّل الإيوانات إلى مرايا من لازورد. وحين بلغت شيراز والشوق يسبقني إلى حجارة برسيبوليس وضريح سعدي وزغردات القوافي في أبيات حافظ، أدركت أنّي تركت شيراز في أصفهان. فتدثّرت بصمتي وبكيتُ بكاءً مرّاً...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024